ستبقى أوراق اللعبة بأيدينا
يبدو أن لا أحدَ في هذا العالم يقف إلى جانب رئيس النظام التركي بقراره دخول الأراضي العربية السورية كقوة احتلال بغيضة، وبذريعة محاربة “الإرهاب” الذي يتهدد نظامه، لا بلاده؟! فالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وشركاؤه في اجتماعات أستانة ودول المنطقة والعالم وحتى ترامب نفسه، لا أحد منهم إلا وأظهر امتعاضه وخشيته وتحذيره من عواقب حماقات أردوغان المعهودة بما في ذلك أطياف واسعة من الشعب التركي.
ويبدو أيضاً، مع هذا الاضطراب والقلق الذي يسود المجتمع الدولي، أن الإدارة الأمريكية في حَيرة من أمرها وهي تخبط خبط عشواء داخلياً وإقليمياً وخارجياً، وهي تتراقص على الحبال وتترنّح في قراراتها العبثية في حالة غرائبية ليست غير معهودة ولا سيما في هذه المنطقة، وتجاه حلفائها “أزلامها” – والزّلُم والأزلام في العربية، وفي القرآن الكريم هي أقداح الميسر : “وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق” -… وهكذا شأن أزلام أمريكا عامة، وخاصة حليفيها الفاسقين قسد، وأردوغان، فهي تخلّت وضربت بوعودها لحليفين عرض الحائط بعد اتفاق آب الماضي، مواربة عن الأولى، وتتوعد الثانية بتدميرها اقتصادياً على الأقل. وقد تركتهما يترنّحان، وفتحت لهما باب شر لا يعرفان له مدخلاً ولا مخرجاً.
قسد ضائعة تماماً اليوم، وكذلك أمرها من قبل ومن بعد، وقد انتقلت من صفوف الخيانة إلى صفوف الأعداء، فبدا خذلانها واضحاً وهي تسير في طريق الانهيار المعنوي والمادي، وستطالها لعنة الحاضر وكذلك لعنة التاريخ على خياراتها الخاطئة وقد باعت نفسها برخص، بل بلا ثمن. ولم يبق لها من قيمة إلا استحواذها وبمأجورية على الآلاف من سجناء داعش، وهذه مسألة تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها وتحليلها، لأنها مسألة شائكة بين أردوغان والغرب وكل من دعم الإرهاب في المنطقة والعالم، فما مصير هؤلاء السجناء المجرمين والمأجورين والعصيين على التصنيف؟!.
وأردوغان لا شك ضائع أيضاً وتائه، ويكاد يكون محاصراً سواء إذا تقدّم وفعل، أو إذا تراجع وأحجم، لأن الخيبة في الحالتين مصيره، إذ لا يستطيع أحد في هذا العالم أن ينكر أن دخول قوات نظامه الأراضي العربية السورية هو مخالف للقانون الدولي، وهو غير شرعي بالمطلق، وسيكون احتلالاً يستفزّ الشعور الوطني عند أطياف الشعب العربي السوري عامة، وكذلك الشعب العربي. وهذا ما ستكون بالبديهة تكلفته باهظة، وما سيضع نظام أردوغان خاصة، وتركيا عامة في ورطة كبيرة، أمريكا نفسها تتهرب منها، ويوضح ترامب أن لا طائل منها ومن الصعب تحمّل عواقبها وتكاليفها. وخاصة أن أردوغان أعاد إلى أذهان السوريين عموماً القناعة بأن: عدوّ جدّك ما يودّك.
وكذلك الإدارة الأمريكية نفسها نخرَها التباين والتناقض في اتخاذ قرار واضح بهذا الأمر ولا سيما تجاه حليفيها البائسين معها: قسد، وأردوغان وهي تلتفت بدقة إلى المسألة السابقة “سجناء داعش”، فيصرخ ترامب: لا أريد غوانتانامو جديدة في الولايات المتحدة. حسناً: لكن غوانتانامو الجديدة موجودة عند قسد، وإذا دخل أردوغان فمن الطبيعي سيستحوذ عليها، فمن يبيع، ومن يشتري قسد وداعش، أو أردوغان وداعش؟!، وربما هذا بعض ما دفع الأمريكان لإعلان بقاء سيطرتهم الجوية على منطقة العمليات في محيط قسد، وإلى القول أيضاً إن الانسحاب لن يكون كاملاً.
ويزداد الأمر وطأة لأن الإرهاب الذي سيحاربه أردوغان “قسد” هو الذي تدعمه ربيبته أمريكا، بينما الإرهاب الذي يدعمه أردوغان “النصرة” هو الذي يجب أن تحاربه أمريكا والعالم وفق القرار 2254. فعلاً، أمريكا وأزلامها – كما تقول العامة عندنا -: فاتوا بالحيط.
هذا كله جانب من المسألة، لكن الجانب الأهم هو:
إن الأراضي العربية السورية، وحقوق الشعب العربي السوري، وتاريخه النضالي الحافل، وصمود قائده وجيشه في هذا المعترك المصيري الصعب، واستمرار نجاحه المتواصل في بعدي المعركة لصد العدوان عليه: العسكري والسياسي، وقدرة مؤسسات دولته الوطنية على مواصلة مسيرة التحرير والتطهير والتنمية والبناء وتحدي العقوبات التي أفرزت بمجملها وضعاً داخلياً صعباً لكنه لن يكون أبداً عصيّاً على المعالجة.
إن هذا جميعه يؤكد أن هذه الأراضي، التي روت كل بقعة منها دماء الشهداء البررة، لن تكون ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات في هذا العالم، بل هي في كل شبر طاهر منها ملك الجمهورية العربية السورية، وتحت تصرف مؤسساتها الوطنية، وبحماية الجيش العربي السوري الأغرّ الذي كانت قيادته على قناعة منذ الأيام الأولى للحرب على سورية: أن هذه الحرب ليست قصيرة لا في الزمان ولا في المكان.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الإشكالية التي ابتدعها اليوم ترامب وأردوغان هي في سياق وضع العراقيل أمام المسار السياسي الذي دعمته واستجابت له دمشق والمجتمع الدولي في إقرار لجنة مناقشة الدستور، بعدما خابت عراقيل المسار العسكري.
وبالمحصلة: فكما كانت سورية المنطلق لانتصار العرب على الاستعمارين العثماني والغربي، ستكون اليوم وغداً أساس الأمن الوطني والقومي العربي، فستبقى أوراق اللعبة بأيدينا، وإن غداً لناظره قريب.
د. عبد اللطيف عمران