الردع اليمني.. توازنات جديدة
د.معن منيف سليمان نفّذ سلاح الجو المسير بالجيش واللجان الشعبية في اليمن ثاني أكبر عملية هجومية على العمق السعودي منذ بدء العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي الغاشم على اليمن. سميت هذا العملية بـ”عملية توازن الردع الثانية” على مصفاتي نفط بقيق وخريص تمّ تنفيذها بطائرات تعمل بمحركات مختلفة وجديدة ما بين عادي ونفّاث. وجاءت هذه العملية عقب “عملية توازن الردع الأولى” التي استهدفت حقل الشيبة النفطي على الحدود السعودية الإماراتية في 17 آب الماضي بعشر طائرات مسيَّرة في عملية وصفت حينها بأنها الأضخم والأكثر زخماً منذ أن أعلن التحالف السعودي عدوانه الهمجي على بلاد اليمن السعيد.
تأتي عملية استهداف حقلي بقيق وخريص في إطار الرّد المشروع والطبيعي على جرائم العدوان وحصاره المستمر على اليمن منذ خمس سنوات تقريباً. وبالوقت نفسه يشكّل ضغطاً كبيراً على مملكة آل سعود لمراجعة حساباته في اليمن، وإلا فإن “بنك الأهداف” سيتسع يوماً بعد يوم وربما يكون أشدّ إيلاماً، وبالتالي لا خيار أمام قوى العدوان إلا وقف العدوان ورفع الحصار عن الشعب اليمني.
هذه العملية تؤكّد صحة رؤية القيادة اليمنية التي جعلت استهداف الاقتصاد السعودي طريقاً نحو وقف العدوان، إذ بات جلياً حجم الضغط الذي تشكّله الخسارة الاقتصادية على الإدارة الأمريكية التي لم يعد هناك شكّ أنّها هي التي تقود العدوان إذ سارعت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول موالية للنظام السعودي إلى إدانة العملية الهجومية العسكرية والهروب نحو اتهام إيران، لرفع المعنويات الأمريكية والسعودية ولو مؤقتاً كون الذي استهدف أمنهم وقام بهزّه وزعزعته دولة كبرى في المنطقة وليست حركة فتيّة محاصرة، وهذا يجنّبهم ربط وقف استهداف الأمن السعودي والنفطي بوقف العدوان والحصار على اليمن.
إن ما جرى هو حلقة جديدة في القصف بواسطة المسيّرات وبنك الأهداف الذي أعلن عنه المقاومون اليمنيون مؤخّراً. ومن الواضح أن حجم العملية كان كبيراً جداً حيث انتشرت صور ومقاطع مرئية (فيديو) على مواقع التواصل الاجتماعي للحرائق الهائلة والدخان الكثيف بمصافي أرامكو في بقيق وخريص، وهو ما دفع السلطات السعودية للاعتراف بالعملية فالهجوم كان الأكثر جرأة من الجانب اليمني والأخطر في الوقت نفسه على البنية التحتية النفطية لأكبر منتج في العالم، وهو ما أثار حالة القلق، ليس لدى السعوديين فحسب، ولكن لدى حلفائها والمهتمّين بسوق النفط في العالم، إذ من المتوقع أن تنسحب هذه العملية على مسارات أخرى أكثر خطورة، بعضها ربما يؤثر بشكل أو بآخر على اقتصاد المملكة ككل.
فهي، كما وصفها البعض، تعرّض الأمن والسلم الدوليين للخطر، وتهدّد الاقتصاد العالمي، ومصدر لخطر خراب خدمات أساسية في السعودية كتأمين الكهرباء والماء والغاز والمشتقات النفطية، وهي سبب لتدهور أسواق الأسهم وارتفاع أسعار النفط، ولعجز السعودية عن ضخ ما يلزم لاستقرار هذه السوق ما استدعى أوامر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” باستخدام الاحتياطي الاستراتيجي لمنع حدوث أزمة نفطيّة.
لقد شكلت العملية صدعاً أمنياً سعودياً مزمناً، يتعلّق بكيفية وصول هذه الطائرات المسيرة إلى أهدافها وإصابتها بدقة في منطقة من المفترض أن تكون أكثر المناطق أمناً لأهميتها الاستراتيجية في المملكة كونها مخزن ثرواتها ودخلها، وأماكن انطلاقها، والتقصير المقلق في عدم رصدها، وإمكانية تعاون جهات داخلية أو إقليمية في تنفيذها.
ومن ناحية التوقيت فقد كانت العملية مثار تساؤل كبير لدى البعض، كونها تأتي في الوقت الذي تستعدّ فيه شركة أرامكو العملاقة التابعة للدولة لطرح عام أولي لحصّة من أسهمها قريباً ربما هذا العام، كما يأتي في أعقاب هجمات عبر الحدود على مرافق نفطية سعودية وعلى ناقلات نفط في مياه الخليج.
عملية توازن الردع الثانية، وبحسب بيان القوات المسلحة اليمنية:” تعدّ إحدى أكبر العمليات التي تنفذها القوات اليمنية في العمقِ السعودي وقد أتت بعد عمليةٍ استخباراتيةٍ دقيقةٍ ورصدٍ مسبقٍ، وهو ما يتيح لأبطال القوة الصاروخية وسلاح الجو المسيَّر اليمني الوصول إلى كافة الأهداف السعودية الـ300 التي سبق أن تمّ الإعلان عنها في وقت سابق”.
إن عملية سلاح الجو المسيّر التي سميت بـ”عملية توازن الردع” تحمل رسائل مهمّة لقوى العدوان مفادها أنه مهما استمرّ العدوان فلن يركع الشعب اليمني ولن يحطمه ولن يشلّ قدراته ولن يصل به إلى الاستسلام. وهكذا فرض المقاومون اليمنيون قواعد اشتباك جديدة وكرّسوها فعلياً، وأكدوا مجدّداً من خلال هجمات بقيق وخريص رسالة تقول في مضمونها: “نحن نستطيع أن نضرب في أي مكان في العمق السعودي حتى تدرك القيادة السعودية أن قتل المزيد من اليمنيين لن يجعلهم يركعون .. وأن الشركات التي طالتها الضربات لا تزال تحت المرمى وقد يطالها الاستهداف في أية لحظة إلى أن يراجع النظام السعودي حساباته ويوقف عدوانه وحصاره على اليمن”.
أسفرت تلك الهجمات عن تعطل جزئي في إنتاج الشركة السعودية أدّى إلى تراجع حجم إنتاجها من النفط بقيمة خمسة ملايين برميل يومياً أي قرابة نصف الإنتاج النفطي الحاليّ للمملكة، وهو ما أثّر على الأسواق العالمية بشكل سلبي. وقالت شركة “إنرجي أسبكتس للاستشارات” أن الهجمات على أرامكو لم تستهدف النفط فقط، بل عطلت 18 بالمئة من إنتاج الغاز الطبيعي و50 بالمئة من إنتاج الإيثان وسوائل الغاز في المملكة. وأوضحت الشركة في مذكرة لها أن “فقدان الغاز أثّر على عمليات المصافي، وربما خفّض معدلات الاستهلاك بها بمقدار مليون برميل يومياً، ما يوفّر خاماً متوسطاً وثقيلاً للتصدير. ومن المتوقع أن تضطر السعودية لشراء كميات كبيرة من البنزين والديزل وربما زيت الوقود، في حين تخفّض صادراتها من غاز البترول المسال حسب مذكرة “إنرجي أسبكتس”.
فقدان السعودية لزمام السيطرة على هذه التداعيات، لم يدعها تنجح حتى في محاولاتها لتجاوز الكارثة إعلامياً، فبعد أن ادعت أنها ستعالج المشكلة في ظرف أيام معدودة وأعلنت أنها ستعوِّض الخسائر من “الاحتياطي”، كشفت العديد من وكالات الأنباء الدولية وعلى رأسها “رويترز” و”بلومبرغ” أن عودة إنتاج أرامكو بالكامل سيستغرق “أسابيع وليس أياماً” في فضيحة أخرى تؤكّد أن المصفاتين المستهدفتين تعرضتا لتدميرٍ كبيرٍ، وهو ما يعني أَيضاً أن خسائر السعودية ستتضاعف بتكاليف كبيرةٍ لإصلاح ما دمّرته الطائرات اليمنية.
وعلى غير المتوقع، فإن التداعيات السياسية لعملية الردع جاءت بشكل معاكس تماماً للاتّجاه الذي أرادته الولايات المتحدة والسعودية؛ إذ أكّدت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن الرئيس الأمريكي “ترامب” لا يمتلك الكثير من الخيارات للرّد على الهجوم ضدّ منشآت أرامكو، وهو ما تحدّث حوله مراقبون ذكّروا إن “عملية توازن الردع الأولى” دفعت واشنطن إلى إعلان استعدادها للحوار مع “صنعاء”، وأنه لا يُستبعد أن تدفعها العمليةُ الثانية إلى مباشرة هذا “الحوار” واتخاذ خطوات للخروج من المأزق قبل أن تتلقى المزيد من الضربات الاقتصادية مع اقتراب انطلاق الحملة الانتخابية للرئيس “ترامب”، الذي لن يستطيع التغلّب على تداعيات الإخفاق الاقتصادي بتحميل إيران مسؤولية الهجمات، علماً أن هذه الهجمات تمثّل في الأَساس جزءاً من تداعيات الحرب التي تواجه إدارة الرئيس “ترامب” انتقاداتٍ متواصلةً بشأنها في الداخل الأمريكي.
إن قدرات سلاح الجو التابع للجيش واللجان الشعبية اليمنية تقدمت كثيراً، وباتت قادرة على تدمير المنشأة السعودية بأكملها، وبالتالي فإن الهجوم على مصفاتي أرامكو يعدّ تطور ميداني كبير، يعكس مدى قوة الجيش اليمني واللجان الشعبية، ويلقي جملة من التساؤلات حول جدوى الحرب على اليمن المستمرّة منذ نحو خمس سنوات، ومدى قدرات الدفاعات الأرضية لما يسمى “التحالف العربي”.
كانت الضربة قاسية ومؤلمة ونوعية، وقبول أن “أنصار الله” كحركة فتية وراءها يضع أمريكا في موقع الإخفاق الكبير في حماية سوق الطاقة العالمي من الاضطراب، وقبول أن مَن هزم التحالف هو شعب محاصر منذ سنين أفشل الحصار، والقبول بقدرته على التصنيع، وقبول قدرته على خرق منظومات الرادار والصواريخ ، وإعلان هزيمة مدوّية لمنظومة تكلّف مئات مليارات الدولارات، يصعقها اليمنيون بمنظومة لا تكلّف إلا آلاف الدولارات، مضافاً إليها عامل مهم للغاية هو الإرادة. والقبول بالتالي بأن إثارة قضية الأمن السعودي مشروطة بأمن اليمن وما يعنيه من وقف للعدوان والحصار.
لقد تجسّد الوعد بصورة أكثر وضوحاً واتّساعاً في العملية الثانية على مصفاتي بقيق وخريص العملية التي ما زالت تداعياتها الاقتصادية والسياسية تكشفُ عن دمار هائل ألمّ بالمصفاتين، وتؤكّد أوَّلاً على أن المرحلة العسكرية الجديدة ماضية، بشكل ممنهج ودقيق، وبنجاح منقطع النظير، في تجفيف “الضرع السعودي”، باعتراف المملكة نفسها، وثانياً، على أن هذا هو الطريق الأكثر فعالية لوقف العدوان الذي أثبت خلال السنوات الماضية أنه يتغذّى على النفط، وهو ما ظهر جلياً في ارتباك وتخبّط موقف الإدارة الأمريكية إزاء العملية.
وفي هذا السياق، يحضر أَيضاً وعدُ القوات المسلحة اليمنية بتنفيذ عملياتٍ قادمةٍ أوسع وأشدَّ إيلاماً، وهو وعد تفرض التداعيات الأخيرة على الولايات المتحدة أن تأخذه بمنتهى الجدية، خاصّةً أن عمليات توازن الردع أثبتت احترافاً يمنيّاً في انتقاء الأهداف وتوقيت الضربات، والاحتفاظ دائماً بأوراق أكبر، فإذا ما تواصلت هذه العمليات يرجِّح بعض المراقبين أنه سيأتي الحديث بلا شَكٍّ عن “مضيق باب المندب” ومحطاتٍ أُخرى حسّاسة جداً، وحينها ستكون التحديات أمام واشنطن وحلفائها أكبر من أية محاولات للمراوغة.
إن عملية بقيق وخريص النوعية، تمثّل انتصاراً نوعياً للمظلومية اليمنية التي أوشك عامها الخامس على الانتصاف، في ظلّ استمرار الإجرام والصلف والوحشية السعودية التي تمارس ليلاً ونهاراً في حق أبناء شعبنا في اليمن، وإصرار العدوان السعودي على فرض الحصار الخانق ومنع وصول السفن النفطية والبضائع والسلع الأساسية إلى ميناء الحديدة رغم حصولها على التراخيص الرسمية من قبل الأمم المتحدة وتحالف العدوان، في إمعان لإذلال اليمنيين والتضييق عليهم في حياتهم ومعيشتهم، وهي ممارسات تعسفية لن تتوقف إلا بالمزيد من العمليات النوعية التي تضرب مقدرات هذا التحالف العدواني الذي يستخدم لتدمير وتمزيق الأمة والتآمر عليها وتمكين الأعداء من النيل منها والسيطرة عليها.
وهكذا تعدّ “عملية الردع الثانية” هي العملية الأكبر في العمق السعودي، كما تعدّ انجاز عسكري واستخباراتي وضربة قاصمة للنظام السعودي، كونها عطّلت أكبر مخزون نفط للنظام السعودي. كما أثبتت العملية تطوير القدرات العسكرية للجيش واللجان الشعبية اليمنية ووصولها إلى مرحلة إفشال منظومات الدفاعات السعودية المتطورة عن كشف الطائرات اليمنية المسيرة، ما يؤكّد أن العملية خلقت توازنات جديدة وتداعيات غير مسبوقة.