ترامب وتقرير مجموعة دراسة سورية
د. إبراهيم علوش
ربما يغيّب دخول الجيش العربي السوري إلى مناطق كانت خارج سيطرته حتى الآن، من الشيخ مقصود في حلب إلى ريفي الحسكة والرقة، الهزة التي أحدثها الغزو التركي لمنطقة الجزيرة السورية، ولكن لا يجوز أن تغيّب عودة الدولة السورية إلى تلك المناطق، وما أسفرت عنه من تضعضع في مواقع الولايات المتحدة وتركيا و”قسد” بالجملة، نقطة الانقلاب المفصلية التي أطلقت العنان لكل هذه التطورات، وهي قرار ترامب بالانسحاب من شمال سورية الذي أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية رسمياً الآن أنه بات قيد التنفيذ..
قرار ترامب بالانسحاب من سورية، قبل كل أبعاده المحلية السورية والإقليمية والدولية، شكّل صفعةً للدولة العميقة في الولايات المتحدة. وكانت لجنة مفوضة رسمياً من الكونغرس الأمريكي، تضم الحزبين الجمهوري والديمقراطي، قد نشرت في 24 أيلول الفائت تقريراً يحدد ملامح الاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة في سورية، تحت عنوان “التقرير النهائي لمجموعة دراسة سورية” Syria Study Group Final Report.
أول توصية في ذلك التقرير كانت: “إيقاف الانسحاب العسكري الأمريكي” من سورية، وقد ساق التقرير تحت ذلك العنوان مقترحات تنفيذية محددة هي: “تحديث البعثة العسكرية الأمريكية استباقاً لتمرد داعشي، الإعداد بشكلٍ ملائم لحالات الطوارئ المختلفة وسيناريوهات التصعيد، استعادة التواجد المدني الأمريكي، وتمويل تثبيت الاستقرار في شمال شرق سورية، الضغط على قوات سورية الديمقراطية لتحكم بشكلٍ أكثر انفتاحاً على المجموعات الأخرى، إعطاء أهمية أكبر لحل مشكلة معتقلي داعش، وإعطاء أولوية أكبر للانخراط العسكري والدبلوماسي في العراق”.
كل هذه التوصيات، المتبناة رسمياً من الدولة العميقة في الولايات المتحدة، دعت للمزيد من التورط الأمريكي في سورية.. والعراق، بأشكال مختلفة، ومن المؤكد أن ذلك لا يتضمن الانسحاب، أو إعادة الانتشار، بما يتيح لتركيا زيادة تمددها على حساب الميليشيات الكردية والنفوذ الأمريكي بالوكالة، لا سيما أن التقرير أشار بوضوح إلى أن الولايات المتحدة لا تزال تمتلك الكثير من الروافع للتأثير في مجرى الأحداث في سورية، أولها، نفوذها في شمال شرق سورية، وثانيها، نظام العقوبات على سورية وداعميها، وثالثها، حجب مساعدات إعادة الإعمار عن سورية، ورابعها، الاستمرار بعزل الدولة السورية سياسياً ودبلوماسياً.. وهذا يعني أن خطوة ترامب الأخيرة بددت أهم رافعة من روافع التأثير الأمريكي في سورية، وهي التواجد العسكري، الذي ترغب الدولة العميقة بتعزيزه وزيادته، لا بتقليصه!.
النقطة الجوهرية أن تقرير “مجموعة دراسة سورية” – آنف الذكر – نُشر في اليوم ذاته الذي أعلنت فيه رئيسة مجلس النواب، نانسي بلوسي، عن بدء التحقيق الهادف لعزل الرئيس ترامب بتهمة إساءة استخدام السلطة، وقد رأى البعض أن إعلان بلوسي غطّى إعلامياً على تقرير “مجموعة دراسة سورية”، لذلك لم ينل حقه من الاهتمام، لكن ربما يكون الأمر على العكس تماماً، ففي ظل الصراعات العنيفة بين إدارة ترامب والدولة العميقة لا يمكن قط استبعاد إمكانية تعمّد جماعة الدولة العميقة أن يزامنوا، من قبيل ليّ الذراع، بين الإعلان عن حملة عزل ترامب رسمياً وبين نشر توصيات محددة له تطالبه بالمزيد من التورط في سورية.
الأرجح أن ذلك جعل ترامب يستشيط غضباً، وبالنظر لطبيعة شخصيته، يشكّل مثل هذا التزامن، ومحاولة الابتزاز الشفافة التي يوحي بها، تفسيراً محتملاً بقوة لقرار ترامب الفجائي بالانسحاب من شمال شرق سورية، بعد أن كان قد تراجع عنه في الماضي تحت ضغوطٍ مختلفة. كأنه يقول للدولة العميقة: اذهبوا إلى الجحيم، سأفعل عكس ما تريدونه تماماً في سورية، وليكن بيننا صراعٌ بلا هوادة.
وبالرغم من كل التطورات الميدانية والسورية في الشمال السوري، يبقى من المفيد العودة إلى تقرير “مجموعة دراسة سورية”، لأنه يمثّل ما تريده الدولة العميقة في الولايات المتحدة في سورية، ونلحظ هنا أن التقرير المذكور يصر على أن “الحرب في سورية بعيدة عن الانتهاء، إنما دخلت طوراً جديداً”، وأن هناك مجموعة من المخاطر والتحديات التي لا مفر من مواجهتها، ومنها: 1 – عودة داعش إلى مسرح الأحداث، والمجموعات الإرهابية الأخرى، لا سيما في إدلب (التي قال التقرير إن الولايات المتحدة لا تملك حرية القيام بحملة شاملة لمكافحة الإرهاب في مناطقها!)، 2 – التواجد الإيراني في سورية ومخاطر انفجار صراع مع “إسرائيل”، 3 – رفض الدولة السورية تقديم تنازلات سياسية تغيّر من طبيعتها ومن سياساتها، 4 – تضخم النفوذ الروسي إقليمياً انطلاقاً من سورية، 5 – تصاعد الخلاف مع نظام أردوغان بسبب دعم “قسد”، وما يصاحب ذلك من خطر التمدد التركي مرة ثالثة في سورية، وهو “ما سوف يمثّل نكسة كبيرة للأهداف الأمريكية في سورية” بحسب التقرير، 6 – طريقة “قسد” المنفرة في التعامل مع العرب شرق الفرات، 7 – مشكلة اللاجئين والنازحين السوريين (التي كانت من تبعاتها خربطة الموازين الانتخابية – لمصلحة أعداء الهجرة – في الدول الأوروبية ذاتها، بحسب مقدمة التقرير).
نستنتج من كل هذا الكلام أن الدولة العميقة الأمريكية لا تريد للحرب في سورية أن تنتهي، وتريد إعادة إحياء فزاعة داعش وأخواتها، وتريد بشكلٍ عام أن تعيد الانخراط والاستثمار في سورية بما يتيح تحقيق أهدافها الاستراتيجية ضد الدولة السورية وإيران وروسيا، وبما يتيح زيادة النفوذ الأمريكي لتشكيل “الحل السياسي” في سورية على هوى الدولة العميقة الأمريكية.
كذلك يشير التقرير إلى ضرورة التمهيد دولياً لمحاسبة من ارتكبوا جرائم حرب في سورية، من دون جعل ذلك شرطاً للتسوية السياسية، مع التشديد على أن الطرف الرئيسي، الذي يرفع واضعو التقرير مثل هذه “الفزاعة” فوق رأسه، هو الدولة السورية تحديداً، وهو ما يؤشر على نيتهم جعل المحاكمة الدولية مدخلاً للابتزاز، كما حدث في السودان وغيره، الأمر الذي يعني فعلياً أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة لا تريد حلاً في سورية!.
أخيراً، يقول تقرير “مجموعة دراسة سورية” إن الولايات المتحدة يجب أن تمضي في سياسة العقوبات والحصار، وعزل سورية، ومنع إعادة الإعمار، وإن تلك الإجراءات ينبغي توسيعها، وهي نقطة يجب أن يدركها كل من يتوهم أن تفاقم مشاكل سورية الاقتصادية والوضع المعيشي للمواطن سببه داخلي أساساً، متجاهلاً أن السعي لخنق الاقتصاد السوري وإيقافه عن الدوران هو هدفٌ أمريكيٌ معلن وصريح؛ ومن الواضح أن مثل هذه الاستراتيجية المعادية تتطلب استراتيجية وطنية سورية مقابلة لإفشالها، تبدأ من الإدراك أننا في حالة حرب، أحد أبعادها اقتصادية، لن تنتهي قريباً.