“الفيس بوك” كوسيلة اتصال
بماذا يمتاز “الفيس بوك” وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، عن وسائل الاتصال الأخرى كالراديو والتلفزيون والصحافة؟ يقول “إيريك ماغريه”: “نحن محاطون بوسائل اتصال جماهيري عملاقة، تخاطبنا على مدار اليوم والساعة، وتنقل العالم وتضعه بين يدينا، لكنها لا تسمح للأسف لنا بإبداء رأينا”.
المقصود بكلام ماغريه أن الصحافة والراديو والتلفزيون، وبسبب هذا الخلل في جوهر تلك الوسائل، عمدت إلى تعويض ذلك بجهود وأنشطة تدفع الجمهور للظن أنه يشارك مثل: “بريد القُراء/ أو ما يطلبه المستمعون” وغيرها من برامج تحث الجمهور على التواصل مع تلك الوسائل، لكن ذلك بقي شكليا طيلة عشرات السنين، أما الآن فقد حُلت هذه المشكلة مع وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك عبر “اللايك” الذي يتيح عددا من خيارات ردود الأفعال أمام الجمهور، مثل وجه غاضب أو حزين أو يضحك، هذا إذا كان مستعجلا، ويريد أن يقوم بـ”كليك” على السريع، وقد يتحمس للمشاركة في رأيه إذا كان لديه وقت أكثر واهتمام أكبر بالموضوع، فيكتب تعليقا، ولربما تحمس للمادة المنشورة، فقام بمشاركتها؛ ميزة الشعور لدى الجمهور، بأنه يستطيع التحاور الآني مع ما يراه أو يقرأه، هي تماما ما يميز وسائل التواصل الاجتماعي عن وسائل الاتصال، التي صار بمقدورنا اليوم أن نصفها بالكلاسيكية!
إذا كانت ميزة الصحافة المادة المقروءة، والراديو الصوت المسموع، والتلفزيون الإمكانيات البصرية، فإن ميزة مواقع التواصل الاجتماعي، هي الثلاث السابقة مجتمعة، فهناك المادة المكتوبة في “البوست” كالصحافة، وهناك مقطع الفيديو كالتلفزيون، وهو يتضمن الصوت والصورة بطبيعة الحال، يُضاف عليها الإحساس بروح المبادرة، وشعور كل فرد من الجمهور أن صفحته هي “قناة اتصال”، فهو رئيس تحرير صفحته الخاصة وهو الذي يرسم سياسة مواد الفيديو عنده مثل أي مدير محطة تلفزيونية، ولديه صلاحيات بالإعدام للأصدقاء الافتراضيين وذلك بحظرهم، أي أن الجانب الفردي متضخم أكثر.
لكن من بين كل ما سبق تحظى الصورة الثابتة بميزة تفضيلية على غيرها، لأنه أثناء تقليب كل مشترك لمئات صفحات الأصدقاء، فإن فرص التوقف عند مقطع فيديو قليلة، وذلك لصالح الصورة الثابتة ! ما يعني أن هذه الوسائل في جوهرها، هي وسائل يروج عليها الصورة الثابتة، لا ينافسها إلا مقطع الفيديو شريطة غرائبيته أو كوميديته أو فضائحيته، والمواضيع هي مواضيع خفيفة بالعموم، وحتى إذا تناولت مواضيع تتسم بالعمق والجدية، مثل حقوق المرأة أو حقوق الطفل والتطرف وغيرها، فإن ذلك يشير إلى نقطتين خطيرتين، الأولى: هي أن القضايا أصبحت في سوق الفرجة، وليست في معرض النقاش والتحليل، والثانية هي أن القضايا الكبرى، إذا لم تعثر لنفسها على صورة فوتوغرافية أو مقطع فيديو يناسبها، فإنها سوف تصبح بمستوى أقل بالأهمية وبعيدة عن “المشاركة”.
كل ذلك يؤدي إلى ظاهرة اتصالية ربما يجب الاصطلاح عليها باسم “الجَلَبَة الفيسبوكية”، ويمكن اختصارها ب: احصل على صورة تهم الرأي العام، وفيها مجال لإبداء الرأي الانفعالي، كالغضب أو التعاطف، وسترى مواقع التواصل اشتعلت بها، وذلك بسبب سهولة الاشتعال، فالأمر لا يتطلب سوى بضع ثوان، كتابة “بوست” غاضب أو ساخر مرفق مع الصورة أو مقطع الفيديو، لكن سرعة الاشتعال هذه، تتبعها سرعة انطفاء مماثلة، فإما تظهر قضية جديدة مزودة بصورة، فتطيح بالقديمة، أو تتحول القديمة نفسها إلى “علكة” تدفع للضجر أمام جمهور متعطش لكل جديد يخوله إبداء الرأي.
لديك قضية جوهرية، وماسة وجادة، من غير صورة أو مقطع فيديو، إذا لا تقترب من مواقع التواصل الاجتماعي، لأن القراءة لوحدها لا تغري هذا الجمهور، أما إذا كان لديك قضية أو مسألة ما تتسم بالسطحية، لكنها موفقة بصورة أو مقطع فيديو، فأهلا وسهلا بك، طبعا بشكل مؤقت، ومن غير جدوى.
نحن إذا أمام ظاهرة اتصالية ليست سهلة كما يُظن، فعلى زمن التلفزيون كوسيلة اتصالية تربعت بمفردها على عرش وسائل الاتصالات كلها ولعشرات السنين، كانت المشكلة الاتصالية، هي، كما يقول أيضا “محمد حسنين هيكل”: “إن خبرا تلفزيونيا مزودا بمادة بصرية عن شخص يقفز من شرفة، سوف يفضله التلفزيون على خبر فيضان تسونامي الذي قضى فيه 30000 ألف شخص إذا لم يكن معه مادة بصرية تناسب التلفزيون، لأن مذيعا أو مذيعة يقولان الخبر من غير مادة بصرية، سوف يحول التلفزيون إلى مجرد راديو”، الآن المسألة أخطر في مواقع التواصل، لأن المشكلة لا تطال الأخبار فقط كما يقول “هيكل”، بل ومعها أيضا القضايا والمشاكل الجوهرية، وهذا سيدفع الرأي العام إلى مزيد من السطحية.
تمّام علي بركات