أشباح الإرث الاستعماري البريطاني
عناية ناصر
نشر موقع “فورين بوليسي” الرائدة في الشؤون الدولية مقالاً غير متوقع إلى حدّ ما لمؤلفته آمي هوكينز والذي ربط أزمتين متمايزتين على ما يبدو: الاحتجاجات في شوارع هونغ كونغ، وإلغاء السلطات الهندية الوضع الخاص لجامو وكشمير.
ترى هوكينز السبب في كليهما هو الإرث المستمر للاستعمار البريطاني، جزئياً، والمتمثّل في الحدود المصطنعة التي تشكّلت بعد تفكك الإمبراطورية البريطانية. لا يمكن تبرير هذه الحدود بأسباب عرقية أو دينية. هذا هو الحال بالفعل، وكلا النزاعين سببه متجذّر في الاستعمار: كشمير مباشرة وهونغ كونغ بشكل غير مباشر.
مأساة التقسيم البريطاني بعد استعمار الهند معروفة، إن المذابح المتبادلة والخسائر الفادحة في صفوف المدنيين والملايين من اللاجئين لا ترتبط فقط بالصراع الديني، بل ترتبط في المقام الأول بالسياسة الطائشة والتي غالباً ما تكون استفزازية، وكان يقوم بها نائب الملك الأخير في الهند، لويس ماونت باتن. كانت رغبته الواضحة في غسل يديه من الهند في أقرب وقت ممكن وتخليص بريطانيا من أية مسؤولية ما بعد الاستعمار، وهي السبب الرئيسي وراء التصعيد الحاد والمصطنع للنزاع. علاوة على ذلك، فإن المؤرخين والسياسيين الباكستانيين غالباً ما كانوا يتهمون ماونت باتن بعدم الحياد عند إنشاء التقسيم.
تعتقد باكستان أن هذا ما حدث في البنجاب بولاية غوجارات وكذلك في مناطق أخرى. كانت كشمير محور قضية التقسيم التي أشعلت أول نزاع مسلّح في فترة ما بعد الاستعمار، وظلت هذه القضية منذ ذلك الحين. وأن توصيات مجلس الأمن الدولي في عام 1948 بشأن إجراء استفتاء لتقرير مصير جامو وكشمير لم يتمّ الوفاء بها، وقد تمّ تناسيه منذ زمن طويل. ونتيجة لذلك، استمر النزاع لعقود على مستويات مختلفة من الشدة، وهو الذي بدا واضحاً في الصدامات المسلحة الهندية الباكستانية التي وقعت قبل عدة أشهر، وفي قرار الهند الحالي بإلغاء الحكم الذاتي الدستوري. من الواضح الآن أن كلاً من الهند وباكستان يسعيان إلى تحقيق مصالحهما الوطنية الخاصة والمتعارضة في كثير من الأحيان من خلال هذه القضية، وسيكون من غير الصحيح اتهام إحداهما فقط بتصعيد النزاع، لكن من المناسب أن نتذكّر أن الاستعمار البريطاني هو أصل الصراع.
بالنسبة لهونغ كونغ، تكمن جذور المشكلة في حروب الأفيون الإجرامية التي شنّتها الإمبراطورية البريطانية ضد الصين لأسباب تجارية والتي أدّت إلى زيادة في تهريب المخدرات في هذا البلد. في هذا السياق، ونظراً للتدخل البريطاني المتزايد في الشؤون الداخلية للصين بسبب الاحتجاجات في هونغ كونغ، سيكون من الطبيعي التساؤل: هل للمدينة الاستعمارية السابقة الحق المعنوي في انتقاد الصين، بالنظر إلى الأساليب الإجرامية الواضحة -حتى بالمقارنة مع العدوان الاستعماري في ذلك الزمن- التي كانت تستخدم لغزو هونغ كونغ في المقام الأول؟!.
إن الحدود الاصطناعية للاستعمار وما بعده هي عامل رئيسي في الأزمات الحالية الأخرى كذلك. مثال آخر هو العراق فقد تمّ تعريف بعض حدوده أيضاً بواسطة اتفاقية “سايكس بيكو” وغيرها من المعاهدات بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى والتي كانت محرك الأزمة الحالية في البلاد. ناهيك عن إرث الاستعمار البريطاني في فلسطين، فالسياسة الاستفزازية للإمبراطورية البريطانية في النصف الأول من القرن العشرين خلقت إلى حدّ كبير أسباب الصراع العربي- الإسرائيلي الذي استمر لعقود على الرغم من الجهود التي لا نهاية لها من قبل المجتمع الدولي لتسويته.
الصورة في مناطق أخرى هي نفسها إلى حدّ كبير، فجذور العديد من المشكلات الحالية تكمن في الحدود المصطنعة التي أوجدتها الإمبراطورية البريطانية، وهذا صحيح بالنسبة للصراع الداخلي المتفاقم والمواجهة العرقية في نيجيريا. حتى في السودان أدّت الحرب الأهلية الطويلة إلى تقسيم البلاد. كما يحدث هذا أيضاً في دول تبدو أكثر استقراراً مثل كينيا التي تعاني من عدم الاستقرار في الشمال والانقسامات الاجتماعية العرقية.
لقد تمّ لفت انتباه المجتمع الدولي بشكل عرضي لهذه القضايا بسبب جذور باراك أوباما العرقية، إذ ينتمي والده إلى قبيلة “لوو” التي يتوزع سكانها بين المستعمرتين البريطانيتين السابقتين في كينيا وأوغندا. وكون قبيلة “لوو” أقلية عرقية يشكو شعبها غالباً من أنهم غير ممثلين على النحو الواجب في المراتب العليا للحكومة ويتعرّضون للتمييز من قِبل المجموعة الإثنية الأكبر في كينيا “كيكويو”. نتيجة لذلك، حتى أوباما، رئيس أقوى دول العالم، فشل في حلّ هذه القضية.
ويكشف جانب آخر متناقض من الإرث الاستعماري البريطاني عن نفسه في زيمبابوي. ربما كان الرئيس السابق روبرت موغابي هو الأكثر إفصاحاً في إثارة مسألة مسؤولية بريطانيا بعد الاستعمار تجاه مستعمراتها السابقة. في زيمبابوي، كان على بريطانيا أن تدفع ثمن إعادة الأراضي التي استولى عليها المستعمرون البيض من المجتمعات المحلية. كما يرتبط التأثير السلبي للاستعمار البريطاني الذي ما زال محسوساً اليوم أيضاً بالتصدير القسري للقوة العاملة من الهند إلى مزارع السكر في المستعمرات الأخرى. ويمكن ملاحظة ذلك اليوم في الانقسامات الاجتماعية والصراعات السياسية العرقية الحادة بين المجتمعات المحلية ضد الهنود في فيجي، وغيانا، وترينيداد، وتوباغو، وموريشيوس إلى حدّ ما. كما أن المذابح الهندية وطرد الجاليات الهندية من العديد من بلدان ما بعد الاستعمار في شرق إفريقيا (على سبيل المثال كينيا وأوغندا) في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين تشهد أيضاً على الممارسة الاستعمارية لبريطانيا. وبالتالي، فإن الاهتمام الذي أولته كاتبة مقال “الفورين بوليسي” لإرث الاستعمار البريطاني الناجم عن الصراع، له ما يبرّره، فاليوم، أصبح جزءاً من قضية أكبر هي عدم اليقين فيما يتعلق بسياسة المملكة المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لقد بدأت المقالات حول الانبعاث المحتمل للطموحات الإمبريالية البريطانية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الظهور بالفعل في وسائل الإعلام البريطانية. وعلى افتراض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لن يكون هناك أي تأثير سياسي للاتحاد الأوروبي ولن تضطر بريطانيا إلى اتباع سياسة الاتحاد الأوروبي المشتركة. وهذا يمكن أن يخلق إغراءات إمبريالية جديدة في بريطانيا ما بعد الاتحاد الأوروبي، لأن غياب تأثير الاتحاد الأوروبي يمكن أن يؤدي إلى عدم وجود ضبط أخلاقي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
من الواضح أنه من المستحيل العودة إلى الماضي والاستعمار البريطاني وهذه حقيقة تاريخية، ولكن لتعزيز نفوذها على السياسة في عالم اليوم، من المحتمل أن تتخذ بريطانيا عدداً من الخطوات ذات المغزى الرمزي بينما تستعد لمغادرة الاتحاد الأوروبي. على سبيل المثال، يمكن لبريطانيا تقديم اعتذارات عالمية عن فترة الاستعمار، وقد يقول كثير من الناس في المستعمرات البريطانية السابقة إنه ليس من قبيل المبالغة مقارنة هذه الاعتذارات بتلك التي قدّمتها ألمانيا الجديدة عن النازية.