“إهانة الرئيس” .. ذريعة أردوغان لقمع المعارضة
د.معن منيف سليمان
استخدم رئيس النظام التركي “رجب طيب أردوغان” تهمة “إهانة رئيس الجمهورية” ذريعة للتنكيل بالمعارضة والنيل من رموزها، وقمع حرية التعبير، وترهيب الناس حتى لا ينتقد أحد الحكومة، حيث تستقبل المحاكم التركية الآلاف من ضحايا هذه التهمة سنوياً بمختلف أعمارهم وفئاتهم الذين اعتقلوا وزجّ بهم في السجون، وفصلوا من وظائفهم تعسفياً. ما أثّر سلباً على دولة القانون التي ينشدها المواطنون الأتراك، وأدّى إلى فرار عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج البلاد هرباً من سياسة أردوغان القمعية.
يعود تاريخ تهمة إهانة رئيس الجمهورية التي يعدّها القانون التركيّ جريمة يحاسب عليها القانون إلى عام 1993، وتشير التقارير إلى وجود زيادة كبيرة في أعداد القضايا والتحقيقات التي تُجرى مع مواطنين بتهمة “إهانة رئيس الجمهوريّة” بتوجيهات من أردوغان، خاصةً بعد محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016. ووفقاً لتقارير حقوقيّة، فقد بلغ عدد القضايا التي رفعت من قبل النيابة العامة بتهمة “إهانة رئيس الجمهوريّة”، في عام 2017، نحو 20539 ألف قضية، تمَّ النظر في 6033 آلاف قضية منها في محاكم الجنايات التركيّة، ونفذت الأحكام في 2099 منها.
وكان تقرير صدر نهاية شهر تشرين الثاني 2018، عن منظمة العفو الدولية قال: إن ما يقرب من 130 ألف موظف تم فصلهم من وظائفهم تعسفياً قبل أكثر من عامين في تركيا، خلال فرض حالة الطوارئ، وأسفرت محاولة الانقلاب عن خضوع 402 ألف شخص لتحقيقات جنائية، واعتقال ما يقارب 80 ألفاً بينهم 319 صحفياً، وإغلاق 189 مؤسسة إعلامية، وفصل 172 ألفاً من وظائفهم، ومصادرة 3003 جامعات ومدارس خاصة ومساكن طلابية.
بالإضافة إلى وفاة نحو 100 شخص في ظروف مشبوهة، أو تحت التعذيب، أو بسبب المرض جراء ظروف السجون السيئة، وفرار عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج البلاد، وفق التقارير التي نشرتها المنظمات الدولية ومنها تقرير منظمة العفو الدولية، مطلع شهر أيار 2018. وهذه الأرقام قابلة للتغيير نظراً لاستمرار العمليات الأمنية بتهمة المشاركة في الانقلاب على الرغم من مرور ثلاثة أعوام على وقوعها.
وأشارت صحيفة “أحوال” التركية إلى عشرات البرلمانيين و 46 من رؤساء البلديات من حزب الشعب الديمقراطي المسجونين بتهم إرهابية مزيّفة وتهديدات مزعومة للأمن القومي منذ شهر كانون الأول 2018. كما انتقدت الصحيفة سجن ما لا يقل عن 6000 عضو من أعضاء حزب الشعب الديمقراطي ومسؤولين منتخبين بسبب مجموعة متنوعة من التهم المتعلّقة بالإرهاب والخطاب السياسي. كما تم إقالة 99 رئيس بلدية في خطوة عدّها معارضو أردوغان أنها “مجزرة سياسية” بحق المعارضة، وأيّد أردوغان أيضاً اعتقال شرطة مكافحة الإرهاب لـ 53 شخصاً في إسطنبول عشية الانتخابات.
كانت آخر تلك القضايا، كشفتها صحيفة “جمهوريت” التركية عن أنَّ المدعي العام التركيّ في أنقرة تقدّم بطلبٍ إلى البرلمان لرفع الحصانة عن 68 نائباً، أغلبهم من حزب الشعب الجمهوريّ المعارض، للتحقيق معهم بتهمة إهانة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما قد يعرضهم للسجن لمدة تتراوح ما بين سنة إلى 4 سنوات.
وفي سبيل تنفيذ خطة أردوغان للقضاء على كبار المعارضين رفع البرلمان التركي الحصانة عن “كمال كليجدار أوغلو” زعيم المعارضة، لمحاكمته بالتهمة نفسها، التي تصل عقوبتها للسجن حتى 4 سنوات و8 أشهر. فضلاً عن رئيس حزب الشعوب الديمقراطيّة السابق “صلاح الدين دميرتاش” المعتقل في سجون أردوغان بتهمة إهانة الرئيس أيضاً.
وفي هذا السياق، أمرت محكمة في إسطنبول، بسجن “جنان قفطانجي أوغلو”، رئيسة فرع حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة في إسطنبول، نحو 10 سنوات بتهمة إهانة الرئيس رجب طيب أردوغان والدعاية الإرهابية والحض على الكراهية.
وأصدرت المحكمة حكماً بالسجن لمدة 9 سنوات و8 أشهر و20 يوماً بحق المعارضة التركية البارزة، التي كانت من الداعمين الأساسيين لحملة رئيس بلدية إسطنبول “أكرم إمام أوغلو” في الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا، لإدانتها بخمس تهم مختلفة، من بينها “الدعاية الإرهابية” و”إهانة رئيس الجمهورية”.
وتفرض سلطات النظام التركي رقابة صارمة على الصحافة في البلاد، وقد اعتقلت عشرات الصحفيين والإعلاميين، وأغلقت مؤسسات إعلامية عدّة بسبب مواقفها الرافضة لسياسات هذا النظام القمعية، كما صنّفت لجنة حماية الصحفيين الدولية تركيا عام 2014، بأنها البلد الأول عالمياً في قمع الحريات الصحفية وسجن الصحفيين.
وفي هذا الإطار قضت السلطات القضائية في تركيا بالسجن عاماً وشهرين بحق الصحفية “ناظلي إيليجاك” بتهمة إهانة أردوغان. واستندت المحكمة في حكمها إلى تغريدة نشرتها “ناظلي إيليجاك” في 23 شباط عام 2016، عبر موقع التواصل “تويتر”، انتقدت فيها أردوغان.
بالإضافة إلى اعتقال السلطات التركية الصحفي “ماكس زيرنجاست” واثنين آخرين من أصدقائه، في 11 أيلول 2018، ثم في 20 أيلول من العام نفسه صدرت بحقِّه مذكرةً اعتقال بتهمة الانتماء لتنظيم الحزب الاشتراكيّ التركيّ.
وكان “زيرنجاست” قد أوضح أنَّه أُجريت معه تحقيقات بسبب مقالٍ له في جريدة “واشنطن بوست”، خلال شهر آب 2018، وأشار إلى أنَّه وُجهت له تهمة إهانة رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان في هذا المقال.
وفي تغريدة سابقة للكاتب الصحفي “جان دوندار” رئيس تحرير جريدة “حريت” سابقاً، قال:” في عام واحد فقط تم فتح تحقيق مع 20 ألف مواطن بتهمة إهانة الرئيس أردوغان! هل أردوغان هو الرئيس الأكثر تعرّضاً للإهانة في العالم أم أنَّه يغضب من أدنى شيء؟”.
ونقلت وكالة “رويترز” عن الكاتب التركي “أورهان باموق” قوله للصحفيين أمام محكمة تنظر في قضية ضدّ زميله الكاتب والأكاديمي “مراد بيلج” المتهم بإهانة أردوغان في شهر أيار 2016:” لا يتعلّق الأمر بإهانة الرئيس، بل يتعلّق بإسكات المعارضة ويتعلّق بترهيب الناس حتى لا ينتقد أحد الحكومة” مضيفاً .. “لابدّ أن تولي أوروبا المزيد من الاهتمام بسجل حرية التعبير في تركيا وخاصة بعد توقيع اتفاقية تتعلّق بالهجرة وسفر الأتراك إلى أوروبا بدون تأشيرة”.
ومن ناحية أخرى، يبدو أن هذه التهمة لم تستثن حتى بعض رموز حزب العدالة من الاستهداف ممن يشك في ولائهم للرئيس أردوغان. فقد استدعت لجنة الانضباط في حزب العدالة والتنمية رئيس الوزراء الأسبق “أحمد داود أوغلو”، وثلاثة نواب برلمانيين سابقين عن الحزب للدفاع عن أنفسهم في قضية فصلهم من الحزب. وأوضحت اللجنة أن قرار الفصل تمّ اتخاذه في اجتماع اللجنة التنفيذية للحزب، الذي جرى أواخر شهر آب 2019، برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان، بداعي الإساءة إلى الحزب، والتصرف بشكل مخالف لمبادئه وأهدافه وأخلاقياته.
يُذكر أن عدد المنشقين من أعضاء حزب العدالة والتنمية ارتفع إلى نحو مليون عضو تقريباً، حيث تراجع أعضاء الحزب إلى 9 ملايين و931 ألفاً و103 أعضاء، بعدما كان يبلغ 10 ملايين و719 ألفاً و234 عضواً، الذي تم إعلانه في المؤتمر العام السادس للحزب في شهر آب 2018، وذلك بحسب ما أظهرت آخر بيانات أعضاء الحزب في تموز 2019.
وفي سياق متصل، تزايد معدل هروب الأتراك من الأوضاع السياسية المضطربة في بلادهم، حيث تقدّم 1306 أشخاص بطلبات لجوء إلى ألمانيا في شهر آب الماضي وحده.
ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين أن الأتراك “باتوا يسعون بشكل متزايد للحصول على الحماية في ألمانيا، عبر تقديم طلبات لجوء… ففي شهر آب الماضي وحده تقدم 1306 أتراك بطلبات لجوء في ألمانيا، ما يمثل زيادة كبيرة في معدلات طلبات اللجوء التي يقدمها متحدرون من هذا البلد… وهذا المعدل يضع تركيا في المركز الثاني بين الدول المصدرة للاجئين لألمانيا”.
وأرجعت وزارة الداخلية الألمانية تزايد أعداد طالبي اللجوء المتحدرين من تركيا إلى الوضع السياسي، وتزايد القمع في البلاد، والحملة القمعية التي تشنّها الحكومة ضدّ حركة الخدمة التابعة للداعية “فتح الله غولن” منذ محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016، ثم الأوضاع الاقتصادية المتردية. وفي عام 2018، قدّم 10 آلاف و655 تركيّاً طلبات لجوء في ألمانيا، بمتوسط 888 طلباً شهرياً، ما يعني أن معدل طلبات اللجوء في شهر آب الماضي، هو الأعلى منذ عام 2018.
وعلى ما يبدو أنَّ مسلسل الاعتقال والمحاكمة بتهمة إهانة وتهديد الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، ما زال متواصلاً، بل ويتصاعد بأيّة ذريعة كانت دون تقدير للحريات الصحافيّة أو حرية الرأي بشكل عام، وما على الجميع سوى تمجيد الرئيس وتقديم فروض الطاعة والولاء أو المجابهة والتحدّي. ما يقود البلاد إلى خطر المجهول، ولاسيما بعد أن وصفت منظمة العفو الدولية تركيا بأنها تحوّلت إلى سجن كبير، وطالبت المنظمة أردوغان بوضع حدٍّ لانتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها ضدّ المعارضين والناشطين، تحت ذريعة الأمن.