الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تداعيات مربكة

سلوى عباس

في ذلك اليوم الذي صدر فيه قرار العفو عنها وإصدار صك براءتها لم تقل شيئاً، بل اكتفت بالإصغاء لصمتها، لم تنتبه إن كان أحدهم يناديها من عالم مجهول، كانت حينها في مرمى الحيرة أين ستذهب، ولمن ستلجأ، فما عاشته في غياهب السجن جعلها تفقد إيمانها بكل شيء. ومع ذلك صعدت إلى الحافلة التي أقلتها إلى مركز المدينة، ونزلت هناك مع مجموعة من رفيقاتها اللواتي قضت معهن ردحاً من الذنوب التي لم تعرف حتى هذه اللحظة كيف لحقت بها… كل ما تعرفه أنها بلحظة من عمر الخيبة وجدت نفسها وراء قضبان من قسوة.. اتجهت إلى منزل أهلها، وعندما وصلت إليه تذكرت أنه لم يبق منهم أحد، فقد تركوا البلد هرباً من فضيحة لاحقتهم، دون أن يتبينوا إن كان ما جرى حقيقة أم تهمة مفتعلة.. ذهبوا وتركوها للخيبات تنخر روحها.. وبراءتها التي انتظرتها لسنوات أصبحت منتهية الصلاحية.. تحاول اختراق جدارات لتهرب من كل لحظة عنف عاشتها لأجل الحب وفيه، لأجل الوجود، لأجل الحلم، لأجل النزول إلى الشارع، ولأجل العمل ولأجل الحرية، كل لحظة عنف عاشتها لكونها امرأة، جاءت لتنسى قسوة قلبه الصوان، ولم يرأف بقلبها الذي حملته محطماً وشردت به في الشوارع والحدائق لتخفف وجعه في تلك الأيام العصيبة.. حبها المنثور على طول الطريق إلى المكان الذي توقعت أن يستقبلها، لكن الأبواب جميعها كانت موصدة وما من مجيب.. عادت أدراجها غارقة بدموعها الحارقة، لا يوجد من تبثه وجعها وتشكو له وحدتها في هذا العالم الكبير، لا يوجد من يهبها بعض قوته وكبريائه لتكون كما شاءت حريتها أن تكون.

سألت نفسها: كم من الأعوام والبشر قضوا في هذه الحرب التي عشناها جميعاً بقهر واستغلال وحصار، حتى أمها التي كانت كل مصدر قوتها في الحياة غادرت قهراً وكمداً على غيابها.. أمها التي أرقتها أساليب العذاب التي تتعرض لها ابنتها فرحلت مختنقة بحشرجة لهفتها وخوفها عليها.. ربما رحيل والدتها كمداً عليها يوازي بالنسبة لها كل ما عاشته من ظلم وقسوة، فما كان يمدها بالقوة أنها ستخرج يوماً لتستسمحها وتستغفرها عن كل القهر الذي تسببت لها به.. لكن الزمن لم يمهلها، ليبقى الحزن سواد قلبها ورفيقها الأبدي.

****

هكذا وفي كل مرة يتألق شوقي لك إلى ذراه وأمد يدي لاحتضانك فيخطفك مني خوفك والتردد، أفتح نافذة القلب المفضية إليك دائما وأرسل في سمائك اللازوردية حمامة من عشق وهوى، أحمّلها وجدياتي وأحلامي الندية، أطلقها في جناح من صفاء الروح وسجى اللوعة، تبتعد في فضائك الوسيع ولا يعود منها إلا صدى من تمنّع يؤفل لهائب الشوق، ويذري الكلام على بلاط البرد.. هكذا في مرات كثيرة يؤنبني ظلي ويهز أصبعه في وجهي أن أكون في المرة القادمة أكثر تهذيباً وانضباطاً، أكثر بأساً في لجم الشوق عن الانفلات على قارعة الطريق، أن أسمو بمشاعري إلى درجات العذاب والاحتراق، فهذا يصقل النفس ويرفعها عن ما هو إنساني، ولكني كلما وقفت إلى مرآتي لا أرى فيّ من صفات الملائكة شيء، فليس لي جناحان ولست متسربلاً بالبياض ورأسي لا تحيط به هالة من قدوس الضياء، أجد أني أشبه نفسي، أشبه قلبي كثيراً، سألته مرة هل للملائكة قلوب.. عجز عن الإجابة.