جائزة نوبل للآداب.. تقييم سياسي أم فكري
بعد نجيب محفوظ الأديب العربي الأول والوحيد الذي ارتبط اسمه بجائزة نوبل للآداب ونال ميزاتها المادية والمعنوية عام 1988، لم يحالف الحظ أي أديب عربي آخر بالاستحواذ على أرفع جائزة عالمية، رغم غنى المشهد الثقافي العربي بالأسماء المبدعة التي تستحق على منتجاتها المتنوعة أهم الجوائز والتكريم قياسا بمن حصلوا عليها في السنوات الأخيرة من أدباء أجانب، لكن كما يبدو من بعض القراءات الاستشرافية أن العرب باتوا خارج دائرة لعبة نوبل الجيوسياسية هذه الجائزة التي لايستطيع احد تأكيد نزاهتها وموضوعيتها وعدم خضوعها للاعتبارات السياسية والعنصرية، فمن يتتبع أسماء وجنسيات من حصلوا عليها منذ انطلاقتها الأولى عام 1901 وحتى الآن يكتشف بوضوح استحواذ الجنسية الأوروبية على النصيب الأكبر منها. وليس منح النمساوي بيتر هاندكه جائزة العام إلا حالة في ذات المضمار، نظرا للسوية المتواضعة التي يتسم بها نتاج هذا الكاتب، قياسا بأعمال أدبية عميقة وجوهرية نالت شهرة ورواجا واسعين لكتاب من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والوطن العربي.
قرأت لهاندكة أربع روايات لم أجد فيها ما يقارب بنائيا ودراميا وفكريا أعمال روائية عربية معاصرة كثيرة شكلت إضافة غنية للمشهد الروائي العالمي لو أعطيت حقها من الترجمة والترويج، أمثال أعمال الليبي إبراهيم الكوني صاحب رواية “نزيف الحجر”، وسلسلة “الملهاة الفلسطينية” المكونة من اثنتى عشر عملا روائيا، أو الكويتي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل صاحب رواية “الكائن الظل” والجزائريين واسيني الأعرج كاتب “الليلة السابعة بعد الألف” بجزأين، و”سيدة المقام” الشهيرة، والمتنوع رشيد بوجدرة صاحب “ألف عام من الحنين”، وكذلك العراقي نجم والي كاتب سيرة “بغداد مالبورو” التوثيقية، و”تل الملح” الإشكالية، وغيرهم الكثير.وبعيدا عن المشهد العربي فإن أعمال هاندكة لاتجاري أعمال العشرات من الأدباء الآسيويين أمثال التركية أليف شافاق كاتبة الروايات الفلسفية والإنسانية العميقة أمثال “بنات حواء الثلاث” و”لقيطة استنبول” والنص الأشهر “قواعد العشق الأربعون”. ولا أعمال الياباني يوكيو ميشيما القيمة، أو أعمال الإيراني صادق هدايت صاحب الملحمة الواقعية “البومة العمياء” والأفريقي أليكس هالي صاحب السيرة الملحمية التاريخية “الجذور” التي وثقت مأساة الشعب الأفريقي في تجارة الرقيق، التي يستحق عنها أرفع جائزة عالمية.
لاشك أن هناك فجوة ليست بالضيقة بين ما قرأت للكثير ممن سبق ذكرهم من روائيين والروايات الأربع التي قرأتها للنمساوي الفائز بجائزة نوبل لهذا العام فهو في رواية “الشقاء العادي” التي لايتجاوز عدد صفحاتها الثمانين يقتفي اثر قصة انتحار والدته، بأسلوب بسيط يخلو من التجديد والابتكار والارتقاء يسردها بلغة تقريرية جافة نحار فيها بين ترجمة حرفية ركيكة أو نص متواضع لغة وبناء، يتناوب فيها السرد ضمير الكاتب حينا وضمير والدته الغائب أحيانا أخرى حيث يستجمع الإرهاصات غير المقنعة التي دفعت والدته لإنهاء حياتها، سواء الظروف العائلية أو الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها الحروب والنزاعات التي شهدتها أوربا في النصف الأول من القرن الماضي.
النص الثاني هو “المرأة العسراء” ترجمة ماري طوق، وهي حكاية مقتضبة لامرأة تعيش مع زوجها “برونو” تبحث عن شخصيتها بعيدا عنه، تدور فيها منولوجات مكثفة أقرب إلى الحوار المسرحي: “سألت فرنشيسكا: “الآن ماذا ستفعلين وحيدة؟”
المرأة: “البقاء جالسة في الغرفة دون أن أعرف ماذا سأفعل.”
فرانشيسكا: “لا، بجد، هل هناك رجل آخر”
هزت المرأة رأسها نافية.
فرانشيسكا: “مم ستعيشان أنتما الاثنان، هل فكرت بالأمر”.
المرأة: “لا، ولكني أرغب في معاودة الترجمة”.
وهكذا تستمر الثرثرة في عمل لا يحمل مضمونا قيما يستحق التوقف عنده يستمد عنوانه من اسطوانة “المرأة العسراء” الغنائية التي تستهوي المرأة الاستماع إليها دائما.
الرواية الثالثة “خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء” عنوان لا يرتبط كثيرا بالمضمون، تروي حكاية يوزف بلوخ عامل تركيبات هاتفية كان سابقا حارس مرمى، نتعرف فيها على تفاصيل يومياته العادية والبسيطة الموزعة بين الفندق ودور السينما والمقاهي، وحالة الفراغ التي يعيشها. أغلب مفردات النص من نحو” اشترى بلوخ، أكل بلوخ، سأل بلوخ، اتصل بلوخ….” وهكذا يتفرغ الكاتب لاستعراض أصغر التفاصيل لهذه الشخصية بلغة تفتقر للتشويق والإثارة، أو اللمسات الحسية المعبرة عن فهم مكنونات النفس البشرية وهكذا إلى أن تنتهي مشاهداته وتحركاته في ساحة الرياضة ليقدم بعض النصائح حول مهمة حارس المرمى وكيف يتصرف لصد الكرة.
الرواية الرابعة “رسالة قصيرة للوداع الطويل” وهي الأكثر نضجا بين النصوص الثلاثة السابقة، لكن يصعب علينا مقاربتها مع نصوص توماس مان، أو هرمان هسه، واندريه جيد وارنست همنغواي وغيرهم ممن سبقوا هاندكة إلى الجائزة.
تنقسم الرواية إلى جزأين “الرسالة القصيرة، والوداع الأخير”، وفيها يأخذنا الكاتب في رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية يغرق في تفاصيل تؤكد للقارئ إعجابه بالحياة الأمريكية ورؤيته الدونية للعرق الهندي حيث يقول: “استجداني شحاذ هندي أحمر، أعطيته ورقة من فئة دولار واحد…” فهو لم يكتف بذكر كلمة شحاذ بل أصر على تسمية العرق الذي ينتمي إليه.
وهكذا نخلص من خلال هذه القراءة المختصرة أن أغلب نصوص هاندكة التي نال عنها جائزة نوبل ليست سوى سرد متواضع ليوميات أشخاص خبر حياتهم، دون أن يخوض في فضاءات اجتماعية أو سياسية إنسانية متشعبة وعميقة، تعكس حقيقة ما سعى القائمين على الجائزة التأكيد عليه.
آصف إبراهيم