الحراك الشعبي في لبنان: عفوي أم مخترق؟
د. إبراهيم علوش
على الرغم من أن سماحة السيد حسن نصرالله قطع قول كل خطيب عندما أكد قبل ظهر يوم السبت الفائت أن الحراك الشعبي في لبنان، الذي كانت شرارته المباشرة حزمة ضرائب جديدة، هو حراك عفوي، مطالبه مشروعه، ولا تحركه أصابع خارجية، فإن كثيرين في معسكر المقاومة، وفي الخط الوطني والقومي، داخل لبنان وخارجه، ما برحوا يصرون على أن الحراك تديره أصابع خفية وسفارات وغرف سوداء ذات أجندات معادية للمقاومة تهدف لإحداث فراغ حكومي ودستوري يترك المقاومة في لبنان بلا غطاء ويستهلكها في معارك داخلية مع الشعب على النمط الربيعي ذاته الذي ألفناه ورأينا آثاره المدمرة في أكثر من بلد عربي، لا سيما في سورية.
ما يعزز مثل هذا النوع من الاستنتاجات المسبقة أن بعض الشعارات والفيديوهات وضعت قائد المقاومة زوراً وبهتاناً في مصاف السياسيين الفاسدين في لبنان، على الرغم من أنه وحزبه لم يكونا يوماً طرفاً في المناقصات والعمولات ونهب الموارد التي أثرى منها الفاسدون فأفقروا البلد، دفعت بعض أنصار المقاومة وسورية للتوجس..
من ناحية أخرى، لم يوفر أعداء محور المقاومة في لبنان، مثل وليد جنبلاط وسمير جعجع وغيرهم، الفرصة لكي يحاولوا توجيه الحراك الشعبي الذي ضاق ذرعاً بالفساد وسوء إدارة الموارد، وبالبطالة وارتفاع الأسعار وتهميش المناطق والإثراء غير المشروع، الذي كانوا طرفاً فاعلاً وحيوياً فيه على مدى عقود، باتجاهٍ معادٍ لمحور المقاومة وتحالفاتها.
رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة راح من جهته مباشرة باتجاه الخطاب الصهيوني، في مقابلة له على قناة “سكاي نيوز” قبل أيام، عندما ربط بين تدهور الحالة الاقتصادية في لبنان وما زعم أنه تزايد لـ “نفوذ حزب الله في مفاصل الدولة اللبنانية”. ويذكر أن رئيس الوزراء المذكور ثارت حوله تساؤلات وشبهات علنية في وسائل الإعلام بسبب 11 مليار دولار وصلت لبنان، لم تتضح طريقة إنفاقها، خلال فترة وجوده في رئاسة الوزارة أو وزارة المالية، بناء على وثائق من وزارة المالية اللبنانية ذاتها.
ومع أن سماحة السيد أيد الحراك ومشروعيته، واضعاً الأصبع على الجرح فيما يتعلق بجذور الأزمة التي تعود عقوداً إلى الوراء، لا إلى مشروع حزمة الضرائب الجديدة التي لم تكن إلا القشة التي قصمت ظهر البعير فحسب، إلا أنه وجه رسالة مباشرة لمن يحاولون اختراق الحراك المشروع وتوجيهه ضد محور المقاومة وتحالفاتها السياسية، وكان التحذير لأولئك، وليس للمحتجين طبعاً، الذين أكد لهم أن حزب الله لن يتوانى عن النزول للشارع لو تم إقرار حزمة الضرائب الجديدة في مجلس الوزراء ومجلس النواب، وعندها لن يخرج حتى تتحقق المطالب، وقد فُهم ذلك من قبل كثيرين أنه رسالة للمحتجين أن لا يتركوا الساحات حتى تتحقق مطالبهم.
الوجه الآخر للمعادلة، الذي يغفله المصرون أن الحراك في لبنان “مسيّر” بأجندات مشبوهة، هو أنه حراك:
1 – عابر لحدود المناطق والطوائف، ومثل هذا الحراك، ما دام هكذا، لمن يعرف المشهد اللبناني، لا يكون “مسيّراً” من زعماء الطوائف المعادين لمحور المقاومة، أو من قبل السفارات الغربية، لأن ذلك يتطلب مداخل أو مفاتيح في الفضاء الحقيقي أو الافتراضي في بيئة منقسمة طائفياً ومناطقياً لم يستطع أحد أن يثبت وجودها (في العراق مثلاً كانت نسبة كبيرة من التغريدات تأتي من ذباب ألكتروني مرتبط بدول خليجية بعينها، ولم يثبت حدوث مثل ذلك في لبنان، وفي تونس كانت حملة قيس سعيد تدار على فيسبوك، ولم يحدث مثل ذلك في لبنان).
2- يشارك فيه أنصار محور المقاومة وسورية أيضاً، والأحزاب الوطنية والقومية، وهؤلاء أكثر من وزن مقابل لمحاولات الاختراق التي يقوم بها أعداء محور المقاومة في لبنان عندما يتم حرف الشعارات والخطاب من مطلب محاربة الفساد والهدر إلى “مطلب نزع سلاح المقاومة” وما شابه، وبقاء هؤلاء في الميدان مهم جداً كأحد ضمانات منع انحراف الحراك عن مساره المشروع.
3- يستهدف الفاسدين أساساً، وبالاسم في كثير من الحالات، ويحملهم مسؤولية الأزمة الاقتصادية والمعيشية لعامة الناس، ولا يقول أن سبب تلك الأزمة هو العقوبات الأمريكية بسبب المقاومة، ويطالب بالتالي بشطب المقاومة وسلاحها إرضاءً للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، فالحراك أبعد ما يكون عن ذلك.
باختصار، تثبت الحيثيات أن هذا الحراك عفوي ومشروع، على عكس الكثير من الحراكات الأخرى في الشارع العربي، كما لم نتردد بالقول أكثر من مرة، وأنه غير مخترق حتى الآن، إنما هناك من يحاول اختراقه بشكلٍ حثيث، وحرفه عن مساره، وقد ينجحون أو يفشلون، أي أن الحراك ذاته بات ساحة صراع، كما وعي الكتلة الشعبية في الوطن العربي ككل بات ساحة صراع، ولم يعد محسوماً بشكلٍ تلقائي مع الخط الوطني والقومي، وبالتالي فإنه ليس حراكاً ربيعياً ملوثاً محسوم المآل، إنما هو حراك يفتقد للقيادة والبرنامج الواضح وهو نظيف الدوافع والمواقف حتى الآن، باستثناء بعض الاختراقات والتجاوزات هنا أو هناك، وبالتالي فإن الانخراط فيه، لا الابتعاد عنه، وعدم السماح للقوى والشخصيات المعادية للمقاومة أن تنفرد فيه، هو الموقف الأفضل بالنسبة لهذا الحراك.
المعضلة الآن، لا سيما بالنسبة لمحور المقاومة، هي أن المحتجين لم يعودوا يصدقون الحكومة بشيء، وبالتالي فإن أزمة الثقة التاريخية هذه تجعل الورقة التي قدمها الحريري للإصلاح غير موثوقة، بغض النظر عما ورد فيها، فالناس لم يعودوا يكتفون بالوعود وبالقليل من الرتوش، وباتوا يريدون “نفضاً تاماً” للبنية السياسية التي أنتجت مثل هذا الفساد والهدر المهولين، ولكن ذلك يمس ببعض حلفاء محور المقاومة السياسيين، ولذلك فإن إلغاء مشروع حزمة الضرائب لم يعد يكفي، فما يريده الناس أكثر بكثير.
إذاً المفصل القادم حساس جداً، فإذا لم يعد الناس إلى بيوتهم، وبقوا يطالبون بتغيير البنية ذاتها، ماذا سيفعل حزب المقاومة وقائده؟ هل سيصطدمان بالناس أم بحلفائهما، وكلا الخيارين مر، لا سيما أن بعض المتظاهرين يقرون أن السيد والحزب نظيفان، لكنهم يلومونهما على “السكوت عن فساد بعض حلفائهم في لبنان”، فكيف سيسير قبطان السفينة الخبير المجرب بين حقول الألغام الدفينة وجبال الجليد المترامية؟
ما لا شك فيه أن السيد الذي أثبت قدرته الفذة على إدارة الصراعات في أصعب الظروف، ناهيك عن شجاعته ونظافة يده واستعداده للتضحية، سوف يبهرنا من جديد بحكمته وقدرته العجيبة على الإمساك بمفاصل المواقف الصعبة بحزمٍ ورفق، كما فعل دائماً، وهذا سيكون تحدياً جديداً، وكلنا يترقب كيف ستعالجه قيادة المقاومة.