دراساتصحيفة البعث

أطماع العثماني أضغاث أحلام

هيفاء علي

في الوقت الذي نسمع ونرى فيه الاستنكار العالمي للعدوان التركي على سورية، وعلى رأسه دول حلف الناتو، ويشعر فيه هؤلاء بالرعب من خطر وقوع مذابح جديدة ويطالبون بحظر صادرات الأسلحة إلى تركيا، نستذكر أن هؤلاء المتباكين الآن هم أنفسهم الذين سارعوا لإقامة شبكة استخبارات وغرف عمليات استخباراتية في تركيا حين اندلاع الحرب على سورية، وكانت مهمتها تدريب المرتزقة المستقدمين من معظم أنحاء العالم عسكرياً.

في عام 2016، نشرت إيطاليا نظام الدفاع الجوي “سامب-تي” في مقاطعة كهرمان ماراس التركية القادر على إسقاط أي طائرة داخل المجال الجوي السوري، بدعوى حماية تركيا بوصفها عضواً في الناتو. واليوم يطالب وزير الخارجية الإيطالي بسحب نظام الصواريخ على الفور من الأراضي التركية، كما أعلنت كلّ من فرنسا وألمانيا عن وقف صادرات السلاح إلى تركيا.

وعند متابعة التغطية الصحفية الغربية للغزو التركي، سرعان ما يلاحظ المرء تحولاً مفاجئاً في الخطاب الغربي والفرنسي على وجه التحديد، فوسائل الإعلام الغربية والفرنسية التي كانت تدافع عما يُسمّى “المتمردين المعتدلين” على مدى ثمانية أعوام، وتروّج لهم على أنهم “ضحايا الإبادة الجماعية” تفتح النار عليهم اليوم وتدينهم وتعترف بأنهم إرهابيون. كما شهدنا تغيّراً مفاجئاً في تصريحات الرئيس الأمريكي، فقد هاجم ترامب النظام التركي وهدّد بتدمير الاقتصاد التركي، واعترف بأن من يحمي الأكراد هي فقط الدولة السورية، وأنه آن الأوان لإنهاء الحروب العبثية وسحب القوات الأمريكية من ميادين المعارك في المنطقة.

حالياً يعتمد نظام أردوغان في عدوانه السافر على الشمال السوري على الإرهابيين الموالين له والمنضوين في صفوف ما يُسمّى “الجيش الوطني السوري”، وهم الإرهابيون نفسهم الذين قتلوا السوريين ودمّروا البلاد منذ ثمانية أعوام بدعم من الولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوربي والكيان الإسرائيلي.

هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى، يمكن التساؤل عن الأسباب التي دفعت ترامب إلى سحب قواته من شمال سورية دون الحصول على موافقة الكونغرس، ليأتي الجواب سريعاً بأنه بسبب الانتخابات الرئاسية المقبلة والمزمعة في تشرين الثاني 2020، إذ يتذكّر ترامب وعوده التي أطلقها في انتخابات 2016، عندما قال إنه يريد سحب القوات الأمريكية من الحروب التي لا تنتهي دون أي نتائج وبثمن باهظ جداً بالنسبة لدافعي الضرائب وللاقتصاد الأمريكي. فهو يعتقد أن الدعم الأمريكي للكيان الإسرائيلي له حدود، ويعارض الدولة العميقة حول هذا الموضوع وبعض “الدول العميقة الأوربية” ووسائل إعلامها الرئيسية، ولديه الآن مخاوف أخرى تحلّ محل حماية الكيان الإسرائيلي، ألا وهو صعود الصين وأمريكا الجنوبية. كما أنه يريد أيضاً إبقاء تركيا تحت مظلة حلف الناتو لأطول فترة ممكنة، خاصةً وأن تركيا تضم على أراضيها ثلاث قواعد عسكرية أمريكية في أزمير، سينوب، وقاعدة انجرليك التي تعتبر مقراً للاستخبارات الأمريكية. ولكن هذه القواعد أنهيت مهمتها لسببين ما عدا قاعدة انجرليك: أولهما التحيّز الأمريكي لقبرص، باستثناء تلك التي تضمّ أنشطة الناتو. وثانيهما، ألغت تركيا معظمها عقب حرب الخليج الأولى بسبب الميزانية المرتفعة وتخفيض النفقات. ومع ذلك فإن تركيا هي من تسعى جاهدةً لإبقاء القواعد الأمريكية على أراضيها، حيث استمات وزير خارجيتها العام الماضي في بروكسل كي يبقي الحلف قاعدة أنقرة مفتوحة. لذلك كان على ترامب عقد صفقة مع أردوغان بالشروط التالية: نعم للعدوان شريطة ألا تضغط بقوة وألا تمضي، خصوصاً مقابل الالتزام الرسمي بالانسحاب بمجرد عودة الأكراد إلى حضن الدولة السورية، عندما ينتشر الجيش العربي السوري على طول الحدود مع تركيا، ويصبح شرق الفرات تحت السيطرة الكاملة للحكومة السورية. وعليه فإن الخاسرين الكبار من هذه الصفقة ليس فقط التنظيمات الإرهابية بمختلف مسمياتها، بل أولئك الذين كانوا يراهنون عليها، أي الكيان الإسرائيلي والدولة العميقة المؤيدة لهذا الكيان، والأوربيون الذين يرون أهداف السياسة الخارجية في الشرق الأوسط تنهار، والذين خسروا ثقة شعوبهم، ناهيك عن تلطيخ سمعتهم وفقدان مكانتهم، حيث اعترف الرئيس الفرنسي مؤخراً بنهاية الهيمنة الغربية على العالم.

وإلى جانب التطور الإيجابي للوقائع في سورية، أي الانتعاش تحت استعادة سيطرة السلطة الشرعية  على الأراضي السورية، ومغادرة القوات الغربية غير الشرعية،  فإن الحقيقة هي أنها انتصار جيوسياسي لسورية وروسيا و حلفائهما. وعلى الرغم من حجم الخسائر البشرية والمادية، فقد انتصرت سورية كدولة، وتمّ سحق الإرهاب التكفيري بمساعدة حلفائها وأصدقائها، وعادت الحياة إلى طبيعتها تدريجياً في معظم المناطق والمدن. فيما أثبتت روسيا، طوال سنوات الحرب على سورية، أنها حليف موثوق، ولا تتخلى عن حلفائها. ومن الجهة الأخرى، أثبتت موسكو أنها إلى جانب كونها قوة عسكرية من الدرجة الأولى، قد لعبت دوراً بعيد المدى في مكافحة الإرهاب، وخاصة في الانتصار على تنظيمي “داعش وجبهة النصرة” إلى جانب الجيش السوري، وتريد عودة السلام إلى سورية والشروع بعملية إعادة الإعمار واحترام سيادة حدودها المعترف بها من قبل الأمم المتحدة. وعليه، فإن إستراتيجيتها للدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها، سياسياً ودبلوماسياً، أقوى بكثير من إستراتيجية خصومها  وتعمل الآن على ترسيخ دورها ومكانتها كقوة عظمى عسكرية عالمية وقوة دبلوماسية رائدة على الساحة الدولية.

عند إطلاق نيران عدوانه السافر على الشمال السوري، سرعان ما لاحت أمامنا صورة المجازر العثمانية بحق الأرمن. إذ يحاول أردوغان من خلال سياساته الحمقاء ومغامراته إحياء السلطنة العثمانية المدفونة ليمتد نفوذه إلى كافة المناطق التي تحرّرت من الاحتلال العثماني من خلال تكثيف وجوده العسكري في المناطق المضطربة بدعم الفصائل الإرهابية المسلحة أو من خلال العمل الاستخباراتي المحموم و تأسيس قواعد عسكرية تركية في تلك البلدان، ويريد عبثاً أن يحقّق إنجازاً باسمه في الشمال السوري على غرار ما فعله الرئيس التركي السابق نجم الدين أربكان بضم الجزء الشمالي من قبرص إلى الأراضي التركية، وربما أدرك أن محاولاته هذه ليست سوى أضغاث أحلام.