أمريكا تدفع ثمن الغموض والتهور
عناية ناصر
يعدّ تحقيق مجلس النواب الأمريكي في عزل دونالد ترامب مؤشراً آخر على التآكل الهائل للقوة المحلية للرئيس الذي انخفضت سلطته أيضاً كزعيم دولي، ليس نتيجة للتحديات التي واجهت القادة الدوليين الآخرين ولكن نتيجة لتعليقات الرئيس وأفعاله. في الماضي مكّنت مواءمة السلطة السياسية مع القوة الاقتصادية والعسكرية من تحقيق “باكس رومانا” لأكثر من قرنين، وقد استغرق الأمر أكثر من 1300 عام بعد وفاة ماركوس أوريليوس في عام 180م، حتى تبدّدت السلطة السياسية لروما وسقطت الإمبراطورية الشرقية في النهاية.
يمكن القول إن “باكس أمريكانا” بدأت في عام 1945 بانتصار كامل من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا والمحيط الهادئ، وقد اكتسب العمل الرائد لوزراء الخارجية الأمريكيين كورديل هول، وجورج مارشال، ودين أتشيسون الشرعية. كان هاري ترومان ومارشال عازمين على عدم تكرار رفض إدارة هاردينغ لعصبة الأمم، وبدلاً من ذلك، شرعا في إنشاء الأمم المتحدة. لقد أدركا أن قوة الولايات المتحدة ستوفر لها الهدف الذي يتطلب تطلعها إلى القيادة العالمية.
وبصرف النظر عن عدد من الخطوات الخطيرة –إسقاط رئيس الوزراء الإيراني مصدق في عام 1953، وحرب فيتنام من 1955 إلى 1975 (التي بدأها بتردد دوايت آيزنهاور والتي تصاعدت في عهد كينيدي وجونسون ونيكسون)، وفشل جون إف كينيدي في عام 1961 في خليج الخنازير، وحرب جورج دبليو بوش في العراق عام 2003- عملت مواءمة تفويض السلطة مع القوة على الحفاظ على صلاحية نظام دولي قائم على قواعد أقرب إلى الكمال لأكثر من سبعة عقود، ثم جاء ترامب ليقلب كل الموازين، ففي غضون ثلاث سنوات مارس ترامب السلطة الرئاسية -قوة الولايات المتحدة- بطريقة أدت إلى تآكل سلطة وشرعية الهيمنة الإستراتيجية الأمريكية.
كانت السرعة التي فعل بها الرئيس ذلك مذهلة، فالغموض والتهور لهما ثمن دائماً، ولكن عندما ينعكس هذا الثمن ضرراً كبيراً بسمعة الولايات المتحدة وتراجعاً سريعاً في ثقة حلفائها وأصدقائها التقليديين، فإن الاستقرار والأمن العالميين يتضرران. وفي الوقت الذي يقود فيه ترامب سياسة خارجية وتجارية منعزلة بشكل ملفت للنظر، وبما أن “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” يتخذ نغمات قومية لا لبس فيها، فإن شبكة التحالفات الأمريكية تتراجع في أهميتها بالنسبة لكل من الولايات المتحدة وحلفائها.
لكن الأهم من ذلك، أن الشبكة العالمية للاتفاقيات والترتيبات والجمعيات والتجمعات والمؤسسات التي تعبّر عن النظام الدولي القائم على القواعد أصبحت أيضاً غير فعّالة بشكل متزايد، حيث تمّ ترك أصدقاء الولايات المتحدة لتجديف زوارقهم الخاصة، وهو ما أشاع الخوف من أن تحلّ “الوطنية” التنافسية كنقطة انقسام محل “العولمة” التعاونية (أياً كان شكلها).
وحالياً تجازف الولايات المتحدة بأسر نفسها في صراع ثلاثي مع الصين وروسيا لا يمكن لأحد أن يفوز به، بمن فيهم حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة، فالكل يمكن أن يخسر. لذا فإن حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في مأزق، فالقوى الكبرى غير المهيمنة تبني رخاءها وأمنها عندما تتعاون، وتتفق على أهداف مشتركة، وتتفاوض على القواعد ومراقبتها، وتقدّم التنازلات التي تعدّ جزءاً لا مفرّ منه من الوئام العالمي. أما الدول المتعاونة فتحتاج إلى قائد، وهو الدور الذي كانت الولايات المتحدة قد لعبته بشكل كبير.
هناك شيئان فقط يمكن لحلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة القيام به بشكل واقعي، ليس من ضمنها الانحياز إلى الولايات المتحدة الأمريكية”. أولاً، يجب على الديمقراطيات الليبرالية أن تضغط على الإدارة الأمريكية لضرورة توقفها عن تبديد شرعيتها العالمية والعودة إلى لعبة كسب القبول والدعم لسياساتها، بدلاً من ترك حلفائها وأصدقائها لتحمّل العواقب.
هناك محافظون أمريكيون، مثل وزير الدفاع السابق جيم ماتيس، يفهمون جيداً الترابط بين القوة والشرعية، وكيف تميّز هذه العلاقة بين الولايات المتحدة ومنافسيها، والإدارة التي تعمل بالتأكيد تحصل عليها.
ثانياً، يحتاج حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة إلى تقوية علاقاتهم المتبادلة لضمان أنه، جماعياً، لا يمكن تركهم فريسة واحداً تلو الآخر وتركهم بشكل من أشكال السيادة والاستقلال اللذين يتعرضان للخطر في أحسن الأحوال، ويقوضان في أسوئها.
والسؤال: كيف يمكن تحقيق ذلك مع “البريكست”، ومحاولة كلّ من فرنسا وألمانيا تهدئة النزعة القومية الناشئة، وبقية الناتو غير متأكدة من نوايا الولايات المتحدة على المدى الطويل، والديمقراطيات الآسيوية تعاني من مجموعة متنوعة من الضغوط لتقييد الحريات الفردية؟. الجواب هنا هو أنه سيكون من الصعب الحصول على الاهتمام وتحقيق التوافق الدولي حتى إشعار آخر.