الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ذاكرة من وهم

سلوى عباس

في لحظة من غربة الروح أرسل يحدثها عن افتقاده لها في غربته البعيدة، وعن حاجته لأن تكتب له لتقرّب المسافة بينهما فخاطبها: يبدو أننا نسينا في يوم ما أن نكتب تعهداً يقضي بأن نفرغ بعضاً من وقتنا الثمين لنكتب مرة في الشهر لبعضنا، ولو برسالة تتضمن ثلاث كلمات أو اثنتين، أو رسالة فيها كلمة “مرحبا”.. أحتاج أن اقرأ حركة أصابعك تشرد في صفاء الورق تعكر نقاءه البارد وتعطي للون الحبر قيمته، تحرك استكانة الصفحات، تؤججها وتهدئ اضطرام الشوق، وتربت على القلب المتوتر كي يعود إلى صوابه، وتمسح غبار الروح كي تكف عن جنونها واكتئابها القاتل.. أحتاج أن أعود حياً في كنف انثناءة الورق، وبين حنايا الحروف، متمدداً بين السطور، سابحاً بين النقاط، ملتقطاً بعضاً من أنفاسك التي علقت في مسامات الورق، مفتشاً عن رائحتك التي تسكن في قلبي، وترتكن بقاياها في أنحاء الرسالة، ألملمها قبل أن تذريها حرارة أصابعي الحمقاء.

كثيراً ما كانت تلجأ إلى هذه الرسائل تستحضر من خلالها ذكريات زمن جميل عاشته، لكن هذه المرة شعرت أن إحساسها بما قرأت اختلف عن المرات السابقة.. وضعت يدها على قلبها تتحسس نبضه، لم تلق جواباً فأدركت أن الماضي الذي كان يؤلّق روحها بالفرح والحلم تسرب من حنايا ذاكرتها وفقد صداه.

****

في دردشة عابرة مع أحد أصدقائها حول الحياة ومفاهيمها وقيمها، سألها عن الصداقة ومن هم أصدقاؤها؟ فوقفت حائرة أمام السؤال ولم تسعفها الذاكرة باسم تنطق به، وكم أحزنها هذا، فقد اكتشفت أن لديها الكثير من المعارف لكنها لم تحقق معهم شرط الصداقة، ففي كل يوم ترى نفسها في مواجهة مع صديق اعتبرته في يوم مرآتها، لتفاجأ بهذا الصديق وفهمه الخاطئ لكلمة أو موقف حصل بينهما فيرتد إلى ذاته وكأنهما غريبين عن بعضهما، ويطلق عليها حكمه القاسي، لتنطبق عليها مقولة: “لا تتفاخر بأن لديك أصدقاء بعدد شعر رأسك، فعند الشدائد قد تكتشف أنك أصلع”، وهذا ما يحصل معها كل فترة وأخرى، فهي تبدو للجميع إنسانة مفعمة بالفرح، في جعبتها الكثير من المسرات ومصنعاً وفير الإنتاج للضحكات وأسباب الغبطة.. ربما تبدو كذلك، وقد يُظن أنها مجبولة بطول البال والأناة والقدرة الدائمة على إضافة الهدوء والشاعرية على الوقت والأمكنة، وأنها تدخل البهجة دائماً إلى الآخرين، تسربها من بين أوجاعهم وهمومهم إلى السبل المودية إلى قلوبهم، وترسم البسمة على وجهها حتى لو علمت أن الأمور كلها لا تسير على ما يرام، فهي تحب الحياة وكل ما فيها، وتسعى أن تجعل من حياة الآخرين أكثر يسراً ومحبة ومسرة، فلم تعتد أن تصنع غيوماً من رماد وتبثها في رحب السموات، ولا تجرؤ أن تغيّر لون الورد أو أن تداري الشمس عن الشروق، وتسعى إلى ملامسة الحقيقة المختبئة وراء كلمة أو حركة أو حتى نظرة، وإلى نزع القناع عن وجه المجهول علها تصبح أكثر معرفة وأشد وعياً وأقوى عمقاً ووضوح رؤية، رغم إدراكها لصعوبة أن يصل الإنسان ولو لجزء من الحقيقة، لكنها كما كل الناس يدفعها الفضول دائماً للاكتشاف والمعرفة، والإصغاء لأحلامها.