الغرب والشرق ثقافة ذكورية واحدة ولكن
تاريخيّا، ظلّ الأدب النّسوي شرقاً وغرباً مغيّباً لأسبابٍ عديدة، تتقاطع فيما بينها بتوحّد النظرة الذّكوريّة الاستعلائيّة تجاه المرأة،والتّشكيك بإمكاناتها وملكاتها العقليّة والنّفسيّة،وبأنّها لا تمتلك الحساسيّة المطلوبة، ولا الأدوات الحقيقيّة للكتابة بسبب هشاشة تجربتها الوجوديّة وقلق شخصيّتها وعاطفيّتها، وما النّتاجات النسويّة بعرف أصحاب هذا الموروث الثّقافي سوى ترّهات وقصص بسيطة ولواعج واحتراقات ذاتيّة لا تتجاوز الأفق الرومانسيّ السّاذج.
في الواقع يبدو الأمر تعسّفيّا بالنسبة لنا، لو تركناه على إطلاقيّته هذه دون تمحيص، لأنّ الغرب بنضجه الاجتماعي والثقافي والتّعليمي، وتطوّر وعي الحركات النسويّة فيه، وترسّخ بناه ومؤسّساته وتشريعاته المدنيّة، وفصله الدّين عن الدّولة، استطاع الانتصار لقضايا المرأة وحقوقها ومكانتها في مختلف المجالات، فمع تولّي مؤسّسات الرعاية التربويّة التابعة للدولة العناية بالأطفال، انعدم العائق الأكبر أمام المرأة الغربيّة، الذي كان يمنع تواجدها في سوق العمل، ويعرقل دورها العملي والتّفاعلي بالوجود جنباً إلى جنب مع الرّجل في حقول الحياة المختلفة، حيث كان الفرز محتوماً، الرّجل للعمل خارج البيت، والمرأة للعمل في البيت والتفرّغ للإنجاب والتربية، ما عمّق لديها الجرأة أكثر لتطوير ثقافتها وكفاءتها في مجالات الإبداع المتنوّعة، والتّفكير جدّيّاً بتصدير نتاجاتها الفكرية والأدبيّة، وقد لمعتْ أسماء نسائيّة كثيرة في مختلف المجالات العلمية والأدبيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة عموماً، وبذلك تكون المرأة في المجتمعات الغربيّة قد نجحتْ خلال رحلة نضالها الشّاقّ في تقليم أظافر الثقافة الذّكوريّة وكسر هيمنتها بنسبة كبيرة، بينما ظلّتْ في بلدان المشرق وبالتّحديد العربي، رهينةً للسلطة الذكوريّة المهيمنة على الذاكرة والتراث والثقافة التربويّة حتى الآن، وإن كان بنسبٍ متفاوتة تختلف بين مجتمع عربي وآخر، وهي أقرب إلى الشكليّة منها إلى الجوهريّة، إضافة لعدم نضج البنى المجتمعيّة أيضاً، وسيطرة المؤسّسة الدينيّة على التشريعات الاجتماعيّة، وهذا ما ولّد وعياً نكوصيّاً لدى المرأة جعلها تغرق في الاستلاب، مدمنة البقاء في واقعها المتخلّف، مستمرئة تبعيّتها فيه، وبذلك تكون هي ذاتها ضدّ نفسها وضدّ تحرّرها للأسف الشّديد، لذلك يبدو الحمل المُلقى على عاتق الحركات والطّلائع النسائيّة العربيّة الرائدة في هذا المجال ثقيلاً، إذ يجب عليها التّصدّي بقوّى مضاعفة للكثير من أشكال الهيمنة الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وضدّ وعيها الاستلابي والتّهجيني ذاته، لتصل إلى ما حققته مثيلتها في الغرب.
والمفارقة هنا، وتشمل الشرق، والغرب أيضاً هي أنّ المجتمع نفسه الذي يرفض الاعتراف بمكانة موازية للمرأة مع الرجل، يتقبّل قراءة النّتاجات النّسويّة، بل ويطلق عليها أحكام قيمة عالية، حين تزيّلها كاتبتها بأسماء ذكوريّة. ففي الموروث العربي لم تكن المرأة الشّاعرة تجد لشعرها موطئاً تدوينيّاً في أرشيف التّاريخ، أو شفاهيّاً في مجلس الشّعراء الذّكور إلّا من خلال محاكاتها لخطابهم الفحولي والسّير ضمن نسقه الثّقافي، كما يقول الناقد السّعودي “عبد الله الغذّامي”. كما نجد أنّ أديبات غربيّات مرموقات أنتجنَ الكثير من الدّرر الأدبيّة الكلاسيكية التي ساهمتْ بإغناء التراث الإنساني عموماً، لجأنَ لمثل هذه الحيلة، وتوارينَ وراء أسماء ذكوريّة لتصدير كتاباتهنّ إلى القرّاء، وبهذا الصّدد تقول الكاتبة البريطانيّة “فرجيينيا وولف” موضّحةً الأمر، بأنّه نتاج لصراع داخلي عانتْ منه المرأة الطّموحة في مجتمع ذكوريّ، لم يأخذ إنجازات النّساء على محمل الجدّ، لذلك تلجأ المرأة إلى الاحتجاب وراء اسم ذكوري مضحّية بهويّتها الحقيقيّة، في سبيل الظّهور على الساحة الأدبيّة. ومن ضمن أولاء اللّواتي احتلنَ لتصدير نتاجاتهنّ الكاتبة الأمريكيّة “لويزا ماي ألكوت” وهي من أشهر أديبات القرن التاسع عشر اللّواتي عكسنَ في كتاباتهنّ معاناة المرأة والأطفال في المجتمع، وقد تطرّقتْ لحقوق المدنيّين في المجتمع الأمريكي، ونشرت قصصها تحت اسمٍّ ذكوري مختصر هو “ا.م. بارنرد” لتنشر فيما بعد عملها الأدبي المهمّ “نساء صغيرات” باسمها الحقيقي.
والروائيّة الإنكليزيّة “ماري آن ايفانس” وتعتبر من أشهر كتّاب العصر الفيكتوري، التي نشرت روايتها “آدم بيد” 1859 م، تحت اسم “جورج إليوت” وقد حصدتْ الكثير من مدح وإعجاب القرّاء والنّقاد. والروائيّة الانكليزيّة “شارلوت برونتي” مؤلّفة “جين إير” الرواية الكلاسيكيّة الأكثر شهرة في التاريخ الأدبي، سمّت نفسها “كيور بيل” وقد حصلتْ باسمها الذكوري هذا على الكثير من التّقدير في الأوساط الأدبيّة. والروائيّة “إيميلي برونتي” وهي أخت “شارلوت برونتي” صاحبة الرواية المشهورة الوحيدة “مرتفعات ويذرنغ” التي نشرتها أختها بعد وفاتها باسمها الحقيقي أي “إيميلي”. و”أمانتين أورو لوسيل دوبين” وهي روائيّة فرنسيّة ذات منشأ أرستقراطي، اهتمّتْ بالنّقد والسّياسة ونشطتْ في مجال حقوق النساء. نشرت كتاباتها باسم “جورج صاند”، ولقّبتْ بابنة الثورة الفرنسية، حيث مثلت لكتّاب عصرها رمزاً حيّاً للثورة والتجدّد. والروائيّة “نيللي هاربرلي” الأمريكيّة التي اختارت اسم “هاربرلي” وكتبتْ رواية اسمها “أن تقتل طائراً بريئاً” وفيها تناقش قضيّة التّمييز العنصري، حصلت روايتها على جائزة البوليتزر الأدبيّة، وتعدّ من أنجح الروايات الأمريكيّة الكلاسيكيّة. والروائيّة “أليس شلدون” التي اختصّتْ في مجال الخيال العلمي تحت اسم “جيمس تبتري” وقد قال بتذاكٍ وخبثٍ شديدين، أتباع الذّهنيّة الذكوريّة، عن كتاباتها تلك بأنّها نتاج رجل، تعمّد إخفاء اسمه الحقيقي لأنّه ضابط في المخابرات العامة.
أوس أحمد أسعد