يانسون وطاولة زهر!؟
د. نهلة عيسى
أحاول في هذه الأيام أن أصادق وأرافق المتقاعدين من أعمال لطالما كانت في الظل, يلعبون الطاولة أو الورق, ويشربون القرفة واليانسون, ويتلون على أسماع الحاضرين قصص بطولات وهمية عن مواقف رجولية رفضوا فيها أن يكونوا أعضاء في لجان وظيفية لكي لا يتحملوا المسؤولية! ثم يشرحون للجالسين, كيف يجب أن يعيشوا, وهم في الحقيقة يشرحون كيف يمكن أن تموت وأنت ما زلت حياً, أو على رأي الجدود “عيش ندل بتموت مستور”!!.
أصادق المتقاعدين رغم “أوهام البطولة”, وأدعهم يغلبونني في الورق, هرباً من المتقعرين, فقد تعبت وسئمت من المدعين, وطاولة الزهر خير وسيلة للهروب, فأنا إنسانة بسيطة, بسيطة جداً, لي نفس رغبات الآخرين, واحتياجاتهم, وربما أسلوب حياتهم, ولدي همومي مثل الجميع, رغم أني قد أبدو مختلفة, ليس أفضل ولا أسوأ, فقط مختلفة لأنني لست ضمن قطيع.
أنا إنسانة بسيطة, بسيطة حد الوجع, لست صادقة ولا كاذبة, فقط ليس لدي ما أخفيه, وليس لدي ما أخاف عليه سوى كرامتي, لأني حرصت دوماً على أن يكون مالدي قليل, وكثيراً ما تحاوطني العيون بالأسئلة: تراك شجاعة, أم أنك مسنودة؟ قوة قلب هذه, أم قوة نفوذ؟ وتتراكم في حلقي السخرية المرة, شبيهة البكاء, لأن المسألة ليست شجاعة, ولا سند, أنا فقط ربما متهورة, لا مبالية, أو ربما مؤمنة بما قاله الأجداد: أكثر من القرد مامسخ الله!؟.
أنا لا أحد, وكل أحد, جينات عشوائية من سابع جد, أنا ذاكرة الأنثى في جسد رجل, ومعاهدة فك الارتباط الجنيني مع الذكورة في جسد أنثى, أنا العاقلة والحمقاء, والعاشقة والمعشوقة, العقلانية والغيبية, المتسامحة والمتحاملة, الراغبة والكارهة, أنا شبيهة الدنيا, وظلها, وواسطة العقد بين خيرها وشرها, جمالها وقبحها, أنا حد بين حدين, ولكنني مثل الجميع في النهاية: بلا أحد!؟.
أنا إنسانة عادية, أحب وأكره, أمرض, أخاف, أجزع, يقلقني الراتب العجوز المتهالك في مواجهة غيلان السوق, حيث تتحدد مكانة الواحد منا ونمط حياته وفقاً لأسعار هذا السوق, فأنت في بلادنا ما تملك, وما تستطيع أن تمتلك, فطوبى للموظفين في بلادنا, فهم منذرون للوجع, ولا عزاء في عريهم, رغم أنف أغنية صباح “ع البساطة البساطة”, حيث تتوهم الأغنيات الجمال في الحياة, لكني رغم ذلك أسير ضاحكة كل يوم في الشوارع الحزينة, والسكين كالراية في ظهري مغروساً, يخبرني أني في ساحة حرب يتقاتل فيها مهرجون على أصباغ الوجه, ويشقيهم أن وجهي بلا صبغ!.
أنا إنسانة عادية, مثل المتقاعدين أواري رأسي عندما يغادرني العمل في صحف الكلام المعلوك, والفيسبوك, وأكز السن على السن كي لا أساق إلى العمل الإجباري في أقفاص الببغاوات, وفي حفلات نهاية الاستخدام, وبداية الاستزلام, وصفوف النميمة المتأدبة, والأماكن الدائرية, حيث الوقت حكايات جدات تجتر ماض مضى, والوجوه مربعات, كإشارات المرور, وأنا يقتل كالوقت الموقوت, ويقين البشر المدعوون أنهم هم الذين فعلوا, هم الذين صنعوا, وهاجس في البال: إن كانوا يصنعون, لماذا أخفضوا الرأس في الحرب, لكي لا تراهم الحرب!؟.
أنا إنسانة, فقط إنسانة, لا ملاك ولا إله, ولا حتى رغبة بالخلود, ولا بامتطاء مركبة للشمس تعود بي من القبور إلى العروش, أنا نسيج من أضداد, وساحة عراك بين متناقضات, أشياء لا تُفسر, ولا تُفهم, لكني لست مُعلبة, وجدران قلبي لا تغطيها الطحالب, ولربما فقط لذلك أنا أبحث عن رفقة المتقاعدين المعلبين بوهم أنهم كانوا رجالاً, لأنهم على الأقل ضرر قد مر, لا يحمله المرء معه إلى البيت آخر النهار!؟
أنا في النهاية مثل وطني, كل ما في وحولي, مساحات شاسعة من حزن وقح, أداريه بالسخرية, والإفراط في العمل, وألتصق بالجدار لسند الظهر, لأني لا أجيد الركوع, وأقول لنفسي كل صباح: مؤكد هناك في مكان ما, خلف جدار ما, شيء ما.. يُستحق لأجله النهوض.