دراساتصحيفة البعث

بين الاستراتيجية الأمريكية والروسية في سورية

ريا خوري

اتسمت استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية بميزة التخلي عن حلفائها الذين قامت بتوظيفهم لأهدافها السياسية والعسكرية والأمنية وذلك بعد انتهاء دورهم الوظيفي، ولعل الاستعراض والتخبط الأمريكي في اتخاذ القرار فيما يخص الشمال السوري يهدف إلى كسر جميع التحالفات وهو ما يؤكد أن الخطط التي تتبعها الولايات المتحدة تجاه حلفائها أنها تستخدمهم كورقة لأداء دور وظيفي محدد. هنا يكمن الفرق الكبير بين المنهج السياسي والعسكري الاستراتيجي لروسيا الاتحادية، والمنهج السياسي العسكري للولايات المتحدة الأمريكية. وما يهمنا هنا ما جرى في سورية مؤخراً بخاصة وأن بنية الصراع في الشرق الأوسط وتحديداً في بلاد الشام كان وما يزال يأخذ بعداً استراتيجياً، وسورية على وجه التحديد تملك موقعاً جيو استراتيجياً هاماً في المنطقة.
في الفترة السابقة أكد عدد كبير من الساسة في العالم ومعهم المراقبين السياسيين أن الولايات المتحدة لن تُقدِم على الانسحاب من سورية انطلاقاً من أهمية الشرق الأوسط ومركزيّته في السياسة الأمنية والعسكرية الأمريكية، خاصة أولئك الذين يريدون بقاء القوات الأمريكية في سورية دعماً لمصالحهم الخاصة ولمواقفهم وتوجّهاتهم. من هنا كان وصف الانسحاب الأميركي من سورية بالكارثي، حيث قال الملحق العسكري الأسبق في سفارة الكيان الصهيوني في واشنطن الجنرال إيلي بن مير: “هذا الانسحاب لا يُعتبر أفضل نتيجة من وجهة نظر قادة الكيان الصهيوني، لكن للولايات المتحدة الأمريكية مصالحها المشروعة”. هذا التصريح يؤكد بأن الوكيل الإقليمي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو أكثر مَن يشعر بالقلق من أي تغيّر محتمل في الأولويات الأميركية حيال المنطقة. ولعل الزيارة الخاطفة التي قام بها مايك بومبيو وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية إلى الكيان الصهيوني في طياتها الكثير من التطمينات أهمها أنّ هذا الأمر لم يُعرِّض أمن الكيان الصهيوني للخطر، مع العلم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان دائماً يبدي رغبته بانسحاب قواته العسكرية من سورية، مُعتبراً أن تواجد تلك القوات هي ورطة لم يكن يحسب لها حساب.
بعد الانسحاب الأمريكي المؤقت من سورية تحركت القوات التركية للعدوان على الأراضي السورية في خطوة أكدت للجميع أن انسحاب القوات الأمريكية كان من بين أهدافها الاستراتيجية التخلي عن حلفائها في المنطقة، ووضعهم في موقف لا يحسدون. إن حالة الشعور العارمة التي أصابت الحلفاء بالخذلان جراء تخلي الولايات المتحدة عنهم قد تردد صداها عبر الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي مثلما جرى مع أنطوان لحد والقادة العسكريين الذين كانوا معه نتيجة خذلان الكيان الصهيوني لهم بعد انسحابهم من جنوب لبنان.
في المنحى الاستراتيجي بات واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد قادرة على خوض حروب وصراعات متعددة في الآن نفسه، فقد تم الحديث أكثر جدية على ضرورة جدولة مهام الجيش والأمن الأمريكي دونما الاعتماد على النظريات العسكرية المتعددة، وذلك نظراً إلى تطور وتعاظُم القوة العسكرية والاقتصادية لروسيا الاتحادية والصين الشعبية. لذلك نجد أن المنهج السياسي والعسكري للولايات المتحدة الأمريكية مع ما فرضته التطوّرات المتسارِعة في المنطقة قد أوجد نمطاً أميركياً جديداً في التعاطي والتفاعل مع المستجدات على الساحة الدولية ، خاصة تلك المتعلقة بالشأن العسكري، فالحروب التي شهدتها المنطقة العربية أدخلت الولايات المتحدة في نفق مظلم لا نهاية له، وهذا ما أكده دونالد ترامب غير مرة كان آخرها حين قال: “غرقت واشنطن في حروب الشرق الأوسط التي لا نهاية لها” لتكون النتيجة تحولات كبرى في موازين القوى على كافة الأصعدة. من هنا، لا يمكن وضع الانسحاب الأميركي من سورية خارج هذا الإطار، لكن التبريرات التي قدمتها الإدارة الأميركية للبقاء في سورية بعد قرار الانسحاب يهدف إلى حرمان الدولة السورية من ثرواتها ومواردها النفطية شمال شرق سورية، وللتأثير على طبيعة الحل السياسي القادم، لكن ما يتم نشره والحديث المكثف عنه يظهر ضعف ومحدودية القدرة الأميركية على التأثير في سياق الملف السوري، فالتطوّرات المتسارِعة في الفترة السابقة هي التي كذبت قدرة وقوة استمرار الولايات المتحدة الأمريكية على صوغ معادلات سياسية وأخرى عسكرية في سياق الحرب على سورية لأنها لم تفلح في تحقيق أي من تلك المعادلات.
لقد بات واضحاً تماماً أن التخلّي الأميركي عن الحلفاء جاء في توقيت استراتيجي تمّ استثماره سورياً وروسياً. فحين يُعطي دونالد ترامب الضوء الأخضر لتركيا لاجتياح مناطق الكرد، فهو حكماً قد كسر التحالف مع الطرفين، وهنا يكمن الفرق الاستراتيجي بين السياستين الروسية والأميركية في سورية. هذه إشكالية أظهرت بوضوح العجز الأميركي على التعامل مع الأزمات لاسيما بين حلفائها، بينما روسيا الاتحادية التي تميّز أداؤها بالدفاع عن حلفائها ما زالت على خطها الاستراتيجي، وكانت وما زالت تسعى بشكلٍ حثيث إلى إيجاد حل سياسي يرضي جميع الأطراف.
لقد أظهر الهجوم التركي على شمال شرقي سورية بشكل لا يدع مجالاً للشك التبايُن بين الدورين الروسي والأميركي في سورية ، فلحظة تخلّي الولايات المتحدة الأمريكية عن حلفائها، قوبلت بدخول روسي مؤثّر على خط الأزمة لخفض التصعيد بين الأفرقاء ونجحت روسيا في ذلك بقوة ، وهو خير دليل على أن روسيا باتت عرابة الحل السوري وهذا الأمر سيفتح الباب واسعاً أمام إعادة ترتيب المنطقة وإعادة ترتيب النظام الإقليمي بشكل مناسب.
لقد باتت جميع الدول والقوى السياسية في العالم تدرك مدى الأهمية والدور الذي تلعبه روسيا على الصعيد الاستراتيجي في العالم بخاصة ومنطقتنا العربية بعامة، والتي تعتمد على تقريب وجهات النظر بين كافة الأفرقاء وإرساء نُظُم التعاون وتبادُل المنافِع، في حين ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية في تدمير هذا النظام أي النظام الإقليمي، إضافة إلى جملة واسعة من التناقُضات في التعاطي السياسي مع حلفائها بشكل عام.
ضمن هذا المنظور ، باتت دول الشرق الأوسط التي تماهت مع السياسة الأميركية، تبحث عن شراكات وتحالفات استراتيجية جديدة تضمن أمنها واستقرارها، وفي جانب آخر تضمن الانخراط في معادلات التفاوض الممنهجة للتوصل إلى حلول، لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عمل على تكريس كل جهوده بل وتكريس نفسه رقماً صعباً في معادلات الشرق الأوسط، وهو ما بدا واضحاً في تمكّنه من فرض شروطه السياسية بقوة في سورية. والواضح أن النفوذ الروسي القوي تخطّى القدرة على التأثير في الورقة السورية ليصبح التأثير الروسي فاعلاً ومؤثراً في جل قضايا الشرق الأوسط وهذا ما تراقبه كل الدول بخاصة دول منطقتنا العربية والشرق الأوسط بعامة.