“فجوة الزمن” وتجلّياتها في الشارع
1- لاشك في أن الفجوة بين الأجيال ظاهرة تاريخية متأصّلة، وليست طارئة ولا عرضيّة، وهي اليوم واضحة في الشارع العربي. لكن “فجوة الزمن” ليست مصطلحاً محصوراً بالعلوم الاجتماعية، بل هي موجودة لكن بمعنى آخر في العلوم الأساسية، وهذا ما يعطي المصطلح قيمته وأهميته، فحين يمكن تطبيق منهجية المنطق الرياضي على التحليل السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي تكون نتائج هذا التطبيق مجدية وواعدة.
2- والفجوة هذه ليس معيارها الزمن المجرّد، بمعنى الوقت، بل “المعرفة” أيضاً، فمعيار الحداثة ليس الزمن فقط بل التطور والتجديد والبناء أيضاً، وعلى هذا الأساس تجد في الشارع العربي شباباً سلفيين، وكهولاً حداثويين مستنيرين. كما كان أجيال عصر النهضة وحركة التحرر الوطني والاستقلال العربية في القرن الماضي أكثر حداثة وتنويراً وتأصيلاً وإضافة من أجيال اليوم.. ولا شك في أن لهذا أسبابه….
ومن هنا، نجد أن المشهد الاحتجاجي العربي المعاصر، وعلى الرغم من عمق فكرة الزمن في مساره وتجلّياته، إلا أن أغلب مكوناته ولاسيما الشابة كانت عرضة لطروحات ولأهداف ماضوية للاستعمارين القديم والجديد وللرجعية أثر واضح فيها.
3- الشارع.. ما هو الشارع؟. إنه إطار، ولا شك في أنه مفهوم عام لا يعني الأزقّة والساحات فقط، بل أيضاً يعني المؤسسات بما فيها من دوائر ومدارس وجامعات وأحزاب ونقابات، وكذلك البيت، والسرير الذي تستلقي عليه وبيدك جهاز الجوّال بما يقدمه لك من محركات بحث، ومتنوّع وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى الفضائيات.
في هذا الشارع تزداد وطأة فجوة الزمن ببعديها – الوقت والمعرفة – تناقضاً وتفتيتاً وتذريراً، وعمقاً أيضاً في زمن الفضائيات ووسائل التواصل هذا.
ومما يزيد الأمر إرهاقاً غياب التفسير الدقيق لتراجع الثقة الشعبية بالأحزاب السياسية التقليدية، وبروز مدافعين راديكاليين في الشارع عن بنى سياسية جديدة منشودة وغامضة في وقت واحد، لا يتم الوصول إليها إلّا عن طريق التفكيك والتشريح، والعنف أيضاً.
هذه البنى السياسية المنشودة والغامضة مثَلها اليوم مثل الأجيال الطالعة إلى الحياة والمستقبل من حيث هي عصيّة على التصنيف الذي كان معروفاً في القرن الماضي، حيث كان بالإمكان إلى حد ما حصر توجّهات الشارع العربي في أربع هويات، أو انتماءات، أو تيارات إن شئت، وهي: القومي – الإسلامي – اليساري – الليبرالي. أما اليوم، فلا يمكن حصر ذلك لا بأربع ولا بعشر، لغياب المنهجية والوضوح، وكذلك الأصالة بسبب تضافر عوامل المكوّن الخارجي مع عوامل القصور الذاتية، ما جعل طرح مفهوم نظرية المؤامرة مقبولاً في أحيان كثيرة.
4- ومع إيماننا أننا كعرب، أو كشعوب عالم ثالث “استهلكنا” بما يكفي طروحات نظرية المؤامرة، وبما يجب أن يدفعنا إلى منهجية البحث في تحصين الشارع والمؤسسات وزيادة منَعتهما من خلال تأمين مستلزمات جسر فجوة الزمن هذه، ومن هذه المستلزمات: 1- الحاجة إلى صياغة جديدة للنظرية وللممارسة. 2- الحوار. 3- المأسسة. 4- الشفافية. 5- حصانة الصحفي واستقلاليته بعد أن اكتشفنا في هذه البلدان وعن يقين مضار “بدعة استقلال القضاء وحصانته”.
مع هذا الإيمان، تبرز الحاجة إلى تعزيز مبدأ “المراجعة النقدية” المستمرة والواسعة.
5- هنا لا بد من التشخيص الدقيق الواعي والمسؤول لأسباب الصراع الراهن على وعي الأجيال وعلى هويتها وانتمائها، من خلال إدراك مخاطر تركيز مراكز الأبحاث والدراسات الصهيو- أطلسية على شارعنا، وعلى أجيالنا، وعلى سيرورة الوعي الاجتماعي فيها، انطلاقاً من أن معطيات علم الاجتماع المعاصر تحظى بمكانة غير معهودة اليوم على حساب العلوم والمعارف الأخرى في زمن “الاستهداف” هذا الذي لم يعد نكرانه مقبولاً. إضافة إلى لحظ ضمور اليسار عند الأجيال الطالعة، مقابل إحياء الانتماءات اللا وطنية. وكذلك غياب المشروع الوطني الواعد في المشهد الاحتجاجي عند فئات واسعة، وإن كانت يافطاته مرفوعة، ومشرّعة بالمراوغة لأنها بداية الطريق إلى العنف غير المشروع، والذي أثبتت السنوات العشر الماضية أنه لن يكون أبداً سبيلاً إلى الإصلاح. فالتغيير المنشود من الشارع – حتى تاريخه – لم ولن يكون تجديداً وتطويراً ولا إعماراً ولا بناء، بقدر ما هو باعث على الترحّم على الماضي.
6- يمكن أن تتجلى بعض هذه المظاهر في ما يحدث في الشارعين العراقي واللبناني مؤخراً، بما في ذلك أهمية الانتباه إلى أن ما سيأتي بعد لا يمكن إدراكه أو التنبؤ به – ليس في هذين الشارعين وحدهما – بسبب الاعتباطية والانفعال، ولارتباطه بالتنسيقيات المستترة خلف الجدران أكثر من ارتباطه بالمنهجية أو النظرية الثورية الوطنية الحقيقية.
…. فهل استقالة الحريري أمس مرتبطة باحتجاجات الشارع اللبناني ؟!
لا شك في أنها مرتبطة بتأزّمات الحريرية السياسية أكثر من ارتباطها بالشارع أو بالوطن وهذا واضح من عدة نواحٍ، فهل كانت استقالة الرجل السابقة وهو أسير في بلاط بني سعود مرتبطة أيضاً بالشارع أو بالوطن؟.
وهل هذه الاستقالة ستودي بنظام المحاصصة الذي يدّعي الشباب في الشارع نزوعهم الواعد والناجز إلى تقويضه؟!… إنها في سبيل إحياء هذه المحاصصة وتجديدها، والتي هي من بعض أهداف “الربيع العربي” في أكثر من قطر وبأكثر من أسلوب.
…. إن التبصّر في فجوة الزمن هذه يبيّن، من بعض ما يبيّن، أن الأجيال الطالعة هي أكثر ميلاً وانسجاماً مع مفرزات العولمة، وصراع الحضارات، ونهاية التاريخ، من وعيها وانتمائها إلى الدولة وسلطاتها الثلاث، ولذلك نجد في أحيان كثيرة أن أجيال أثر العولمة تكاد تكون واحدة في مناطق عديدة من العالم، فهي لم تعد أجيالاً وطنية بالمعنى التقليدي للكلمة، إنها أجيال ذات نزوع عابر وجوّال.. ألم يصبح “الجهاديون” هكذا أيضاً؟!.
.. فعلى الأحزاب والمنظمات والنقابات، والحكومات أيضاً، والقوى السياسية الوطنية مهمة المناقشة المجدية لهذه الظواهر التي يجب ألّا تبقى عصيّة على الفهم والتصنيف والمعالجة.
د. عبد اللطيف عمران