أخبارصحيفة البعث

وعد بلفور.. غير قانوني ويفتقد للشرعية والعدالة

المستشار: رشيد موعد- قاضي محكمة الجنايات سابقاً
اتخذت الحركة الصهيونية العالمية من نص وعد بلفور مستنداً قانونياً يدعمون به مطالبهم في سبيل إقامة الدولة اليهودية، فهل لهذا التصريح أهلية قانونية؟.. أجمع رجال القانون في العالم على عدم شرعية هذا الوعد للأسباب التالية: أولاً: إن التصريح ليس معاهدة، وليست لهذه الرسالة أية قيمة قانونية، باعتبار أن وعد بلفور يمنح أرضاً لم تكن لبريطانيا أية رابطة قانونية بها، فبريطانيا لم تكن تملك فلسطين وقت إصدارها هذا التصريح، فالقوات البريطانية احتلت الأراضي الفلسطينية بشكل تدريجي بدءاً من غزة في 7 تشرين الثاني عام 1917، ثم احتلت يافا في السادس عشر من تشرين الثاني من العام نفسه، واحتلت القدس في التاسع من كانون الأول من العام نفسه أيضاً، وحتى ذلك الوقت كانت فلسطين جزءاً من ولايتي طرابلس وبيروت في الدولة العثمانية التي رفضت تصريح وعد بلفور، ولم تعترف بحق اليهود في فلسطين، ولم يرض سكان فلسطين بهذا التصريح، فالحكومة البريطانية بإصدارها هذا الوعد قد خوّلت لنفسها الحق في أن تتصرف تصرفاً مصيرياً في دولة ليست لها أية ولاية عليها، وتعطيه للآخرين دون أن ترجع إلى أصحاب هذا الإقليم، ما يجعل هذا الوعد باطلاً من وجهة نظر القانون الدولي، وغير ملزم للفلسطينيين.
ثانياً: إن وعد بلفور تنعدم فيه الأهلية القانونية، فطرف “التعاقد” مع بريطانيا في هذا الوعد هو شخص أو أشخاص وليس دولة، فوعد بلفور خطاب أرسله بلفور إلى شخص لا يتمتع بصفة التعاقد الرسمي، وهو روتشيلد، ومن صحة انعقاد أية اتفاقية أو معاهدة دولية، كما هو معلوم، أن يكون طرفا أو أطراف التعاقد من الدول أولاً، ثم من الدول ذات السيادة ثانياً، أو الكيانات السياسية ذات الصفة المعنوية المعترف لها بهذه الصفة قانونياً، أما التعاقد أو الاتفاق أو التعاهد مع الأفراد فهو باطل دولياً شكلاً وموضوعاً، ولا يمكن بأي حال من الأحوال امتداد أثر مثل هذا التعاقد بالنسبة لغير أطرافه، وبالنتيجة فإنه ليس ملزماً حتى لأطرافه.
ثالثاً: إن وعد بلفور باطل لعدم شرعية مضمونه، حيث إن موضوع الوعد هو التعاقد مع الصهيونية لطرد شعب فلسطين من دياره، وإعطائها لغرباء، ومن أسس التعاقد الدولي مشروعية موضوع التعاقد، بمعنى أن يكون موضوع الاتفاق بين الطرفين جائزاً، وتقره مبادىء الأخلاق، ويبيحه القانون، وكل تعاقد يتعارض مع أحد هذه الشروط يعتبر في حكم الملغى، ولا يمكن أن يلزم أطرافه.
رابعاً: وعد بلفور هو اتفاق غير جائز بالمطلق، ذلك أنه يجسد صورة انتهاك لحقوق شعب فلسطين، ويعتبر مخالفاً لمبادىء الأخلاق، وللقانونين الدولي والإنساني، ويرفض القانون الدولي انتهاك حق الشعوب في الحياة، والإقامة في بلادها، وتهجيرها قسراً.
هذا الوعد الذي ترتبت عليه الكثير من المآسي والأحداث كان السبب وراء أحداث وتغيرات على المستوى الإقليمي والدولي، هذه التغيرات كانت بمجملها ديمغرافية وجغرافية وتاريخية، فصورة المنطقة العربية أولاً شهدت مسحاً لفلسطين التاريخية، بالرغم من عدم اعترافنا ولو قيد أنملة بهذا المسح، وتحولت هذه الأرض المباركة من صورة إلى صورة، وتم تفريغ الجغرافيا من السكان وتهجيرهم… إلخ، وحتى اليوم لم يكن وعد بلفور مجرد حبر على ورق، أو مجرد وعد أطلقه أحد سياسيي بريطانيا في أوائل القرن العشرين، بل كان السبب المباشر في كل المآسي للشعب الفلسطيني.
وبالتوازي مع الاتصالات التي كانت تجري لإصدار هذا الوعد، كان يتم تبادل مراسلات الشريف حسين- مكماهون التي كانت تتعهد فيها بريطانيا للشريف حسين بتنصيبه ملكاً على بلاد الشام إذا تحالف معها للثورة على الحكم العثماني، وفي الوقت نفسه تماماً، كانت بريطانيا ماكرة تجري مفاوضات مع الأمير عبد العزيز آل سعود، وتعده بعكس ما تعد به الشريف حسين، وخاصة فيما يتعلق بحكم الجزيرة العربية، وفي الوقت نفسه كانت تجري مع فرنسا وروسيا مفاوضات مع جمال باشا الوالي العثماني على المنطقة لإغرائه بالاستقلال عن أمه الامبراطورية العثمانية الضعيفة، والوقوف مع الحلفاء ضد ألمانيا، كما كانت بريطانيا وفرنسا أيضاً تجريان مفاوضات دون علم الآخرين لاقتسام المنطقة فيما سمّي لاحقاً باتفاقية “سايكس – بيكو” التي وقعت بتاريخ 16/5/1916م، أي قبل وعد بلفور بأشهر، وهي المعاهدة التي لم يتم تنفيذها، ولكن بعد الحرب عام 1920م نفذت ضمن اتفاقيات جديدة مبنية عليها في مؤتمر “سان ريمو”، ومعاهدة “سيفر”، لأن الثورة البلشفية في روسيا فضحت هذه المعاهدة وأعلنتها على الملأ بكل ما فيها من قذارة وانحطاط اتصف بهما المستعمر الغربي، ويتصف بهما حتى يومنا هذا.
في الوقت نفسه وعد تشرشل وجهاء المنطقة عام 1920م بعدم إنشاء دولة يهودية، وقال: “إنه مجرد ملجأ قومي لهؤلاء المساكين”!.. في عام 1952 نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرية عن فترة /1919-1939/، بما فيها تلك التي تتعلق بتوطين اليهود في فلسطين، ويتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى، في الصفحة السابعة نقلاً عن مذكرة وضعها آرثر بلفور في عام /1917/ ما يأتي: “ليس في نيتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، فالقوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية”.

الآثار القانونية لهذا التصريح
أولاً: لا يتفق وروح تعهدات الاستقلال التي قدمت للعرب قبل صدوره، كما أن التصرف الذي جرى في فلسطين قد تقرر بالتشاور مع منظمة سياسية كان هدفها توطين غير الفلسطينيين في فلسطين، ألا وهي “المنظمة الصهيونية العالمية”، وهذا يعد تجاهلاً فاضحاً لحق مصالح الشعب العربي الفلسطيني في استشارته لتقرير مصيره.
ثانياً: إن بريطانيا قدمت من خلال هذا التصريح تنازلاً عن أرض، في وقت كانت هذه الأرض تشكّل جزءاً من الامبراطورية العثمانية، وهذا في حد ذاته ليس له مستند قانوني، لأنه لم تكن لبريطانيا أية حقوق سيادية على فلسطين.
هذا التصريح لا يعدو كونه تصريحاً سياسياً لا يقوم على سند شرعي، لا يعتد به حسب القواعد الفقهية والقانونية، وهو لا يلزم إلا الجهة التي أصدرته، كما لا يتمتع بأية قيمة قانونية في العلاقات الدولية، لأن فاقد الشيء لا يمنحه لغيره، إذ لا يمكن لأية دولة أن تمارس اختصاصاتها لتلحق الضرر بدول أو شعوب أخرى.
أما رأي القانون الدولي، فإن هذا التصريح باطل بطلاناً مطلقاً، لأن الوعد جاء على شكل رسالة موجهة من الحكومة البريطانية إلى شخص عادي هو “روتشيلد”، وكان بصيغة تصريح سياسي، وهذا لا يدخل في نطاق العلاقات التي يحكمها القانون الدولي، حيث بموجبه منحت بريطانيا بلاد شعب إلى الصهيونية، وهي حركة سياسية إرهابية تعيش في كل قارات العالم كأفراد، فما بني على الباطل فهو باطل، وعلى المهتمين بالقانون الدولي أن يثيروا هذا الوضع لدى المحافل المختصة بدعاوى قضائية، سندها ما أثاره “جاك سترو”، ومن قبله رئيس الوزراء “لويد جورج”، وغيرهما من البريطانيين الذين استيقظت أخيراً ضمائرهم.