قراءة في أسس السياسة السورية في مقابلة الرئيس الأسد مع قناتي السورية والإخبارية
د. إبراهيم علوش
في باب السهل الممتنع، يقدّم السيد الرئيس بشار الأسد دوماً مزيجاً ملفتاً من رجاحة التشخيص وعمق الرؤية من جهة، وسلاسة العرض وأريحية اللغة من جهةٍ أخرى، وإذا كانت الرسائل السياسية المباشرة المبثوثة في مقابلته الأخيرة الأسبوع الفائت مع قناتي “السورية” و”الإخبارية” قد تناقلتها، أو حاولت تشويهها، وسائل الإعلام العربية والعالمية على نطاقٍ واسعٍ، كلٌ بحسب أمانته، فإن المنهجية والمنطلقات والثوابت التي تعكسها تلك الرسائل هي التي سوف يتم التركيز عليها في هذه السطور.
المنهجية والمنطلقات التي استندت إليها كلمات السيد الرئيس، في هذه المقابلة أو في غيرها، تبقى الأساس المتين الذي لم يتغير ولم يتبدّل منذ بدأت الحرب على سورية عام 2011 وما قبلها، وأول ما نلاحظه يمتد كخيطٍ رفيعٍ من أول المقابلة حتى آخرها هو الموقف المبدئي الصلب من الغرب عموماً، والنظام السياسي في الولايات المتحدة خصوصاً، في مواجهة سعيهما للنيل من سورية والأمة العربية ودول العالم المستقلة، ومحاولة إخضاعها وتفكيكها.
لا ثقة بالسياسة الأمريكية إذاً، ولا بتصريحات المسؤولين الأمريكيين، ولا رهان على أي رئيس أمريكي، وما الغزو التركي للأراضي السورية إلا مسرحية أمريكية – تركية تم اللجوء إليها بعد فشل كل الخيارات الأخرى، وكل ما يقوله الأمريكي، سواء لعدوٍ أو لصديق، ليس له مصداقية، أما “المنطق” الغربي الذي يعارض أي عملية عسكرية في إدلب بذريعة حماية المدنيين، فيهدف في الواقع لحماية الإرهابيين، ولإبقاء المدنيين تحت ربقتهم، ولو كنا ننتظر قراراً أممياً (غربياً) لما حررنا منطقة واحدة منذ الأيام الأولى، والغرب يخطط لاستخدام اللجنة الدستورية ومخرجاتها للهجوم على بنية الدولة السورية، والهدف هو إضعاف الدولة السورية، وتحويلها إلى دولة لا يمكن السيطرة عليها من الداخل لكي تسهل السيطرة عليها من الخارج، والغرب وأدواته هو الذي يفرض الحصار على سورية، وذلك سببٌ رئيسيٌ للمشاكل المعيشية للسوريين (من دون التنكر لوجود تقصير أو فساد أو سوء إدارة في حالاتٍ عدة).
ثمة موقفٌ مبدئي مقاوِم من مشاريع الهيمنة الغربية إذاً لا ينثني ولا يناور، ويشخّص المعركة في سورية منذ البداية بأنها مع الغرب وضده، وإن استخدم الغرب فيها أدواتٍ محلية سورية أو إقليمية تركية أو عربية، وليس السيد الرئيس من النوع الذي يطلق تصريحاتٍ نارية جوفاء أو كلاماً إنشائياً مرسلاً، لكنه كان واضحاً جداً، في هدوئه وثباته ورزانته، في تأكيده على أن الأمريكي في سورية قوة احتلال، ونهاب للثروات، ولعل إحدى الرسائل الأهم التي ربما فاتت البعض، بحسب قراءتي الشخصية، هي ما قاله في المقابلة عن شروط إطلاق حالة مقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في سورية.
لقد قال فعلياً: إن سورية لن تمارس العنتريات، ولن تعلن الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية، أما قيام مقاومة ضد الاحتلال فيحتاج إلى حالة شعبية وطنية في المناطق التي يوجد فيها، وعند وجود مثل تلك الحالة التي يمكن أن تشكّل حاضنة لانطلاق مقاومة شعبية، فإن دور الدولة هو أن تهيّئ لها كل الظروف والدعم. فالنقطة الأولى إذاً، وهي للسوريين، هي أن الدولة لن تقصّر بدعم أي مقاومة شعبية إن وجدت (وتعبير مقاومة شعبية يحتمل معاني عدة).
النقطة الثانية هي أن الخيانات التي مارسها بعض السوريين هي التي جلبت الأمريكي والتركي (والإرهابي التكفيري) إلى سورية، وبالتالي فإن استعادة الوطنية ووحدة الرأي كفيلة بإخراج الأمريكي لوحده، وهو برأيي ما يكمل، ولا يتناقض مع، النقطة الأولى أعلاه. فالواقع هو أن الاحتلال الأمريكي في سورية يستند إلى تحالفٍ مع ميليشيات كردية فيها غير أكراد أيضاً، وبالتالي فإن الصراع معه يعني الصراع معها، فعليها أن تحزم أمرها بالوقوف في صف الوطن.
كتتمة لهذا الموقف المبدئي من الغرب، والإدارات الأمريكية، تم بالتوازي تثبيت مبدأ آخر لا لبس فيه، وهو أن سورية لا تعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، ولا تعترف حتى بوجود “شعب إسرائيلي”، كـ “شعبٍ” أتى من بقاع الأرض ليحل محل أهل الأرض، وأنها تميز بين شعبٍ جار ومشاكل حدودية وخلاف مع دولة جارة، كما هي الحال مع تركيا التي يطمع النظام الأردوغاني فيها بسورية، ويدعم الإرهاب فيها تماماً كالكيان الصهيوني، وبين الكيان الصهيوني الشريك مع الغرب في كل ما حصل ويحصل في سورية، وهذا يعد من البديهيات.
لعل هدوء السيد الرئيس الشديد، ونمطه الحواري العقلاني الودود الذي يشخّص بحياد، ويحاور بتجرد، يخفيان نقطة جوهرية أيضاً تم تأكيدها كرسالة لا لبس فيها، وهي أن اللجنة الدستورية المنعقدة في جنيف مهمتها أن تناقش الدستور فحسب، وليست مهمتها أن تتدخل في أي شيء قد يمس سيادة سورية، لا فيما يتعلق بانتخابات ولا بغيرها، ولم يخفِ الرئيس الأسد قط على هذا الصعيد أن الحوار في جنيف يجري مع طرف مرتهن لتركيا وغيرها، وأن الدولة السورية، إذ ترحّب بكل من يود العودة لحضن الوطن، لم تقدّم بطاقة اعتراف بمن لا يمثّلون حتى أنفسهم، لأنها ليست حتى موجودة في جنيف، إنما يوجد من يشترك بوجهة النظر معها ولا يمثّلها رسمياً، إذ لا يمثّل الدولة السورية إلا الدولة السورية، والعبرة هي دوماً: لا تنازل عن السيادة السورية، ولا مسايرة للتدخل الخارجي، ولا تساهل مع مشاريع التقسيم.
بالرغم من كل ما سبق، فإن السياسة السورية لا تدخل صراعات غير محسوبة ولا صدامات مجانية، ولا تتصلب حيث يمكن لشيءٍ من المرونة أن يحقن الدماء، ويحمي المدنيين، ويسد الذرائع، ويكشف ألاعيب القوى المعادية، بل هي تتسم بالكثير من البراغماتية في الوسائل، من دون مساس بالأسس والثوابت، ونلاحظ هنا بالأخص فكرة التدرج والصبر في تحقيق الأهداف الاستراتيجية ضمن مفهوم اقتصاد القوى لخوض الصراعات الطويلة، وسياسة ترك المجال واسعاً للحلول السياسية قبل اللجوء لخيار الحرب، وسياسة عدم استعداء من لا داعي لاستعدائهم، ووضع المشاعر الشخصية جانباً عندما يتعلق الأمر بالمصلحة الوطنية، فسواء تعلّق الأمر بتركيا الشعب والجيش (وصولاً للاستعداد للالتقاء مع النظام التركي إذا اقتضت المصلحة الوطنية ذلك)، أو بالميليشيات الكردية، أو حتى بالسوريين الذين انشقوا عن الوطن، فإن هناك دوماً مبادرات وإشارات ودية واستعداداً للتفاهم والمصالحة واللقاء بما لا يمس سيادة سورية ومصلحتها الوطنية واستقلالية قرارها طبعاً.
في الشأن الداخلي، كرّس السيد الرئيس نهجاً لكل المسؤولين باتباع أسلوب الشفافية والمصارحة والاستعداد للخوض بالتفاصيل استناداً إلى دراسة وافية للموضوع الذي يبحثه وامتلاك رؤية استراتيجية بشأنه، فمن مشروع ترشيق الإدارة إلى مشكلتي ارتفاع الأسعار والدولار إلى مكافحة الفساد، برز الرئيس الأسد كإصلاحي حقيقي، وكممتلكٍ للروابط والتناقضات الأساسية التي تحكم الموضوع الذي يتناوله، ولا سيما في الشأن الاقتصادي، والنهج العام هو إدارة الأزمات لتحجيمها ومنعها من التفاقم بالتوازي مع خلق شروط لحلولٍ جذرية لتلك الأزمات قد لا يرى المواطن آثارها فورياً.
أخيراً، كان اللقاء دعماً حقيقياً من قبل السيد الرئيس للإعلام الرسمي السوري، وكان الإعلاميان الشابان أليسار معلا وإياد خلف محاورين ممتازين برأيي المتواضع، أعدا العدة للقاء جيداً، وتمتعا بالحضور الذهني لطرح أسئلة متابعة منهجية في صلب الموضوع، بلا محاولة لاستعراض الذات، كما يفعل الكثير من المحاورين في القنوات العربية، كما أنهما تناوبا على الدور في طرح الأسئلة والتعقيب بسلاسة، فشكّلا فريقاً منسجماً أدى مهمته بكفاءة، والأهم أن المقابلة تطرّقت إلى مروحة واسعة من القضايا التي تشغل بال السوريين وأنصار سورية في الوطن العربي، وأنها فعلت ذلك بلا ابتسارٍ أو تحفظ، فشكراً للسيد الرئيس على الوقت وسعة الصدر والأفق وعلى البسمة التي رسمتها كلماته على وجوه المشاهدين والمستمعين في كثيرٍ من الأحيان.