محاولة لإنقاذ الآخرين ثقافة التبرع بالأعضاء البشرية يرفضها المجتمع لأسباب مجهولة .. ويتبناها العلم لنتائجها الإيجابية
سجلت وزارة الصحة خطوات حثيثة في دراسة وقوننة موضوع التبرع بالأعضاء بشكل عام، والتبرع بأعضاء المتوفين دماغياً الذين يعدون في عدد كبير من بلدان العالم المتقدمة متبرعين بأعضائهم إلا في حال نصّت وصاياهم على خلاف ذلك، ولكن على المقلب الآخر هناك نوع من الصدام بمجتمع رافض بشكل كبير لفكرة الموت الدماغي، أو السريري، فطالما المريض موجود في العناية الفائقة، ويتنفس حتى لو بجهد الأجهزة فهو حي، ولا يجرؤ الطبيب، أو الممرض في حالات كثيرة على إعلام أهله الحقيقة المرة التي لا هروب منها رغم أنها قطعية، وفي اعتقاد البعض قد يعيده الدعاء، أو المعجزات، أو أي شيء آخر بعيداً عن العلم، والطب، كما أنه بحسب اعتقاد البعض الآخر له مشاعر، وأحاسيس، والتبرع بأعضائه قد يشكّل عذاباً له حتى ولو زهقت نفسه.
ينقذ حياة إنسان
الطبيب الجراح فادي ديب ناصر أوضح أنه بحسب الإحصاءات الطبية حول العالم فإن حوالي مليون شخص يحتاجون لزراعة الأعضاء سنوياً، ولا يوفق سوى عشر هؤلاء بالحصول على متبرعين بالأعضاء، ما يهدد صحتهم وحياتهم بعد تلف أعضائهم الأساسية كالكلية، أو القلب التي قد تحتاج لشخص غير متوفى ولو كان بحالة وفاة دماغية، وباعتبار أن هذا الأمر ينقذ إنساناً على قيد الحياة بأعضاء إنسان وفاته حدثت، فلا مبرر من الغوص في بحور أفكار المشروع، والمحلل، والمحرم لطالما هناك ضرورات، وكما هو معلوم في بيئتنا الاجتماعية فإن الضرورات تبيح المحظورات، فكيف إذا كانت الضرورة إنقاذ الحياة، وعلى كل شخص منا أن يفكر بتمعن وبكل إنسانية أنه يوماً ما قد تكون سبباً في إنقاذ حياة إنسان بغض النظر عن موعد ذلك، وسيتمكن من فعل الخير ولو كان ميتاً، ويتابع الدكتور ناصر أن هذه القضية من المسائل الشائكة جداً، وغير المقبولة في مجتمعنا التائه بين ثقافة إنقاذ مريض، ورأي مجتمعي مجهول في مسألة التبرع بالأعضاء البشرية بعد الوفاة، بالرغم من أهمية التبرع بالأعضاء الذي بدأ في عام 1954، وهناك ازدياد في عمليات زرع الأعضاء في جميع دول العالم، وتشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى إجراء حوالي مئة ألف عملية زرع أعضاء سنوياً على مستوى العالم، إلا أن عدد المتبرعين بقي عاملاً معيقاً في وجه هذه العمليات النوعية، أما العقبة الكبرى فتتمثّل بعدم توفر الأعضاء اللازمة للمرضى المصابين بالفشل في أعضاء رئيسية كالكلية، والقلب، والبنكرياس، والكبد، والرئة، فالفشل العضوي يصيب كافة الفئات العمرية، ويؤدي إلى الوفاة إن لم يتم استبدال العضو التالف، ومعظم هذه الأعضاء لا يمكن توفيرها من الأحياء، والوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق، وتوفير العدد الكافي منها يكون بأخذها من الوفيات في الوقت المناسب قبل تلفها، أي عند حدوث الوفاة الدماغية الناجمة عن التلف الشديد للمخ، خاصة قاع المخ الذي يتضمن المراكز الحيوية التي تتحكم بالتنفس، ويقدر عدد هذه الوفيات بحوالي 50 بالمليون سنوياً بحوادث مختلفة، تأتي في مقدمتها حوادث السير، وتبرز أهمية هذا النوع من التبرع في أن المتبرع بالأعضاء لا ينقذ حياة شخص واحد بل حياة مجموعة من الأشخاص يصل عددهم إلى 15.
نتيجة وسبب للتقدم
في المجتمعات الغربية نلاحظ انتشار ثقافة الغيرية، ومبادرة أقارب المتوفى بالتبرع بأعضائه الصالحة لإنقاذ حياة الغير من باب الواجب الإنساني والاجتماعي، وتابع الدكتور فادي ناصر: لي تجربة شخصية في ذلك خلال دراستي التخصصية في فرنسا، حيث أجريت عملية طارئة لشخص بريطاني الأصل دخل الطوارىء بعد إصابته بنزيف شديد ناجم عن ثقب في القلب بعد تعرّضه لحادث مروري، ولم يكن هناك أمل في نجاته من الموت، وعندما شرحت الإصابة لزوجته بكت قليلاً، ثم سارعت رغم حالة الصدمة والحزن الشديدين لسؤالي حول إمكانية التبرع بأعضائه لإنقاذ حياة المرضى المحتاجين لعمليات الزرع، وأوضح الدكتور ناصر أن هذه الثقافة هي سبب ما تتمتع به الدول الأوروبية وشمال أمريكا من نسب عالية من المتبرعين بعد الوفاة، حيث تبلغ 34 لكل مليون في اسبانيا، و26 بالمليون في الولايات المتحدة، بينما لا تتعدى هذه النسبة 6 لكل مليون في أفضل الدول الآسيوية، والشرقية.
شرعاً وقانوناً
وأكد د. ناصر أن أهم أسباب غياب ثقافة التبرع بعد الوفاة في المجتمعات الشرقية، والإسلامية خاصة، هو الاحترام الشديد لجسد الميت، بحيث لا يمس، أو يشوه مع وجود أفكار شائعة ومغلوطة بأن الإسلام لا يسمح بذلك، رغم أن هذا الموضوع تم تداوله بين الأطباء والفقهاء منذ أربعة عقود، وأجاز معظمهم التبرع بالأعضاء سواء أثناء الحياة، أو بعد الوفاة، واعتبروها من أهم أعمال الخير، فالشرع أجاز شق البطن عندما تتوفى المرأة الحامل لوجود ضرورة تتمثّل في إنقاذ حياة الجنين، وشق جسد الميت لنقل أعضائه السليمة من أجل إنقاذ المرضى لا يختلف عن ذلك، كما أن القانون أجاز ذلك، فللشخص الكامل الأهلية أن يتبرع، أو يوصي بأعضاء جسده بموجب وصية، أو إقرار كتابي يشهد عليه شاهدان كاملا الأهلية، وليس للورثة أي حق بالتدخل بالمنع، كما أنه يجوز للورثة قانوناً حتى إن لم يوص المتوفى بالتبرع أن يتبرعوا بأعضائه بعد الوفاة إلا إذا اعترض الميت خلال حياته على هذا التبرع، وأوضح الدكتور ناصر بأن الكثيرين يذهبون لدول آسيوية لشراء وزراعة الكلى، أو الكبد بعد فشلهم في إيجاد المتبرعين، ويعودون بأمراض الكبد الوبائي، أو الايدز، وهذه كارثة بحد ذاتها، خصوصاً مع معرفة المتبرع البائع بخطورة مرضه، فهو يرتكب جريمة قتل بحق إنسان آخر، وتنتج هذه الحالات بسبب وجود قناعات خاطئة لدى المتبرع البائع لأعضائه مفادها أن المريض المحتاج لنقل الأعضاء ميت بكل الأحوال، وأن المتبرع ميت كذلك، ولكن عليه إنقاذ أقاربه مادياً.
روح المبادرة
أعتقد أن معظم من سيقرأ هذا المقال ومثيلاته سيتخيل أن شخصاً قريباً له متوفى سريرياً لا قدر الله، وجميع من حوله تنتابهم حالة الصدمة، والضياع بين القلق، والأمل، والهروب من الواقع، ونكرانه، فهل سيجرؤ على مقاطعة هذا الجو كله، ويقرر بمبادرة إنسانية نادرة التبرع بأعضاء قريبه المتوفى لإنقاذ حياة أشخاص مهددين بالوفاة، بالتأكيد تطبيق هذا الأمر سيكون شبه مستحيل إن لم يتم كسر الحاجز النفسي للأفراد، وتعديل أفكار عقلهم الجمعي، وتوعيتهم بصورة علمية، وثقافية لتقبّل الفكرة، وجانبها الإنساني، والأخلاقي، ونتائجها الإيجابية.
بشار محي الدين المحمد