لحظات وارفة الصحو
سلوى عباس
في لحظة من حرقة الوجد وتألق الحنين خاطبها: كلما خرجت من مدار حالتنا شدّني إليك الشوق، فتعود الشمس مرة أخرى تضيئني، ويشتعل وجدي بك من جديد.. كيف استطعت الاختباء في وسادتي، وكيف اختزنت لي فيها كل تلك الأحلام. آن ألجأ إلى سريري أراك تبتسمين فأستحضر ملامحك، وأشمّ رائحة عطرك، فألجأ إلى طاولتي، أشرد في بياض الورق أبثّك اشتياقي وحنيني.. يكبر إحساسي بك وتكبرين، أضمّ وهمك اللذيذ بين ضلوعي وأتخيلك تملئين الليل عليّ أشواقاً وأغاني.. أعود إلى سريري، وللحظة تعود الوسادة وسادة من قطن وذكريات، ويختفي الطيف المبجل بالأماني حيث لا يبقى إلا القماش وأثير فيه رائحة الكلام.
****
تضطرم أحلامه بها فيلوذ بالنوم كي يقترب منها أكثر، ويجتاز المسافات إليها، يطير حولها ويحضر إليها نسيمات المساء الندية معه وطيوب الأزهار البرية يبثها في شعرها المسدول شغِباً كجدول يلهو بين الحصى.. يلجأ كثيراً إلى ذاك الكتاب الذي تركته معه، لا ليقرأ ما فيه، بل ليقرأ عينيها الوديعتين ويترك لقلبه فسحة من ماء الحنين يعبرها إليها، هي الساكنة فيه كالدم، المتوجة عليه ملكة.. يعاني كثيراً من الحنين إليها واستذكار أوقاتها الجميلة بعد أن اعتادها قريبة منه بل قريبة فيه.
****
هو الحب يأسرنا.. يقلب مفاهيمنا رأساً على عقب.. ينير سراديب عمرنا، ويمسح عن أرواحنا ما تراكم من صدأ الزمن وغباره فنرفع مرساتنا باتجاه شاطئه ونعيشه حقيقة مطلقة، دون أن نعلم كم مضى من الوقت ونحن تفتش عنه ونحلم به.. ويكبر هذا الحب ويتملك كياننا حتى يصبح إكسيرنا الذي يغذي روحنا، لكن الخيبة عندما نتوهم أن من نحب يبادلنا مشاعرنا نفسها، ويسعد لكل كلمة نقولها أو نكتبها، ويطالبنا بالمزيد منها، هذه الكلمات التي على ما يبدو ترضي الغرور فقط، وتُنسى بمجرد الانتهاء من قراءتها، فكيف يستطيع الإنسان أن يعيش الازدواجية في حياته ويدعي شيئاً لا يعيشه، وكم هو مؤلم أن يفني شخص ما عمره في بناء شخصيته ثقافياً وفكرياً، ونراه يعيش الحياة بمفاهيمها التقليدية، وحتى الحب الذي تحتاجه روحه يستحضره في أوقات الفراغ – ليؤكد لنفسه ربما- أن من تيمهم بحبه يوماً لازالوا أسرى هذا الحب..؟ّ!
****
حال غابت في سفرتها التي لم يكن راضياً بها تساوت الاتجاهات لديه وانهد به الإحساس بالمسافات والتعب، تشابكت المشاعر في روحه واتقد حنينه إليها والاشتياق، بدت الأشياء حوله بلا أسماء والناس بلا ملامح، كل شيء بدا مغبراً ورمادياً. وفي يوم عودتها، قضى ليله مصلوباً على الحلم المشع يستذكر كيف يكون النوم، الأطفال يغالبون النعاس وهو يغالب الصحو وشريط اللحظات المورقة ويخضورها الوارف، يغالب عطرها المنسل إلى دمه.. تأخر النهار، ظن أن الليل لن يشرق بصبح، قلق غامض انتابه.. سأل نفسه هل هو الشوق يضني صاحبه، أم ماذا.. يذهب إلى الهاتف يدير القرص على رنين لا ينتهي وصمت لا يمزقه صوتها، سكينة موتورة بالأماني وكل الأحلام، هو يعرف أنها أبعد من كل هذا، لكن قلبه كان يحدس بأمر يقلقه، لازم الهاتف، لم يبارحه، انتظره أن يرن وأن ترمي له من بعادها بباقة من ياسمينها، وأن تغسل روحه بموجة بحر وأن تقول له اهدأ فيهدأ.. طلع الصباح وهو لم ينم بعد، ارتدى ثيابه على عجل وتوجه إلى مركز الانطلاق، كانت الشمس في ذلك الصباح تبدو حزينة شاحبة، والطرقات خريفية الصفات، وفجأة شعر بروحه تتشظى على إسفلت الطرقات عندما رن هاتفه وسمع صوت شقيقها يحبسه الدمع وهو يخبره أن حبيبته رفعت مرساتها في غير اتجاه قلبه.