دلالات مقابلة الرئيس الأسد مع قناة “روسيا اليوم” بالانكليزية والانتقال إعلامياً من الدفاع إلى الهجوم
د. إبراهيم علوش
إذا كانت مقابلة السيد الرئيس بشار الأسد مع قناتي “الإخبارية” و”السورية” الفضائيتين في 31/10/2019 موجهةً للجمهور السوري وأنصار سورية العرب، فإن مقابلة سيادته مع قناة “روسيا اليوم” بالانكليزية كانت موجهة للرأي العام العالمي والسوريين والعرب في المهجر.
وإذا كانت مقابلة “الإخبارية” و”السورية” تُقرأ عبر رسائلها السياسية المباشرة ومن خلال لبها ومنهجها في إيضاح أسس السياسة السورية الخارجية والداخلية في الحرب وما بعدها، وما يستدعيه ذلك من ضبطٍ للإيقاع العام لمؤسسات الدولة السورية وأنصارها في ضوء تلك الأسس، فإن أهم ما في مقابلة سيادته مع قناة “روسيا اليوم” أمس الاثنين، برأيي المتواضع، تمثّل في بعدها الإعلامي ودلالاته، قبل رسائلها السياسية، وكلاهما مرتبط بالآخر بالطبع.
فالمقابلة كانت، أولاً، فرصةً للسيد الرئيس ليرد مباشرةً على الأضاليل التي تكوّن جوهر الخطاب الإعلامي المعادي لسورية في الغرب والساعي لتبرير التدخل في شؤونها، من خراريف “النظام يقتل شعبه”، إلى مزاعم “استخدام السلاح الكيماوي ضد السوريين”، إلى كذبة “إطلاق النار على المتظاهرين السلميين في درعا في الأيام الأولى للاحتجاجات” و”تعذيب حمزة الخطيب”، مروراً بتهمة “تدمير مدن بأكملها بذريعة محاربة الإرهابيين، كما في شرق حلب”، وممارسة “التعذيب كسياسة منهجية”، وأخيراً، وليس آخراً – وهذه كانت موجهة للجمهور الروسي – مزاعم “إرسال الجنود إلى سورية ليموتوا من أجل ديكتاتور”، فروسيا، بعيداً عن تهمة “الديكتاتورية” الممجوجة، تدافع عن مصالحها في النهاية، لا عن أي شخص، ديكتاتوراً أم غير ديكتاتور، والسوريون يضحون من أجل بلادهم، لا من أجل شخص.
من كانوا يواجهون مثل هذا الضخ الإعلامي المعادي بكثافة منذ الأيام الأولى للحرب قد لا يجدون في مفردات ذلك الخطاب الغربي المعادي ومصطلحاته جديداً يذكر، ولا في الردود المفحمة عليه، إلا في أسلوب السيد الرئيس العلمي المتزن والمتماسك، الذي لا بد أن يؤثر بالغربيين، وهو ما عودنا عليه الرئيس الأسد بأية حال، ولسنا في هذه السطور بصدد سرد تلك الردود أو تلخيصها، ولا بإعادة تكرار الثوابت التي كرسها مثل أن الكيان الصهيوني عدوٌ وأنه طرفٌ رئيسيٌ في الحرب على سورية، مع أنها قد تفيد في ترسيخ الإجابات السورية عربياً، ولا شك في أن جمهوراً سورياً وعربياً كبيراً سوف يتابع ترجمة المقابلة في الإعادات أو على الانترنت.
أما خارج سورية، ولا سيما في الغرب، فإن ما قاله سيادته سيكون له وقعٌ كبيرٌ في عقول وقلوب جمهورٍ قلما يتعرض لوجهة نظر تكشف حقيقة أضاليل الخطاب الإعلامي المناهض لسورية، وهذا مهم في الخارج، كما أن الانتقال لمثل تلك المرحلة، مرحلة مخاطبة الرأي العام الأجنبي، غير السوري وغير العربي، مؤشرٌ على أن مرحلة جديدة سياسياً، هي الانتقال من حالة الدفاع في الداخل إلى حالة الهجوم إعلامياً في الخارج، قد بدأت؛ فهذه علامة ارتياح سياسياً، ومؤشرٌ على تزايد السيطرة على الموقف السياسي والميداني، خصوصاً بعد عودة الجيش العربي السوري إلى شرق الفرات وتقهقر المشروع الأمريكي في سورية، لا في الإقليم فحسب.
انتقل المحاور البريطاني أفشين راتانسي بكفاءة بعدها إلى طرح مجموعة أسئلة ترسل إجاباتها رسائل مضادة للخطاب الغربي، حول الدعم الغربي والصهيوني للعصابات الإرهابية التكفيرية في سورية وخطورة ارتداد تلك العصابات إلى الغرب، وحول تأثير العقوبات والحصار على المدنيين السوريين الذين يزعم الغرب الحرص عليهم، وحول سرقة النفط السوري، تحت أنظار الأمريكيين وبالتعاون معهم وقت “داعش” ووقت “قسد”، وحول تثبيت أولوية مسار سوتشي على مسار جنيف، وبالتالي المسار الروسي على المسار الأمريكي، وحول تحيز المبعوث الأممي إلى سورية ديمستورا – وغيره – وصولاً للتشكيك بالرواية الأمريكية حول البغدادي وكل تنظيم “داعش” وكشف الغرض منها، وهو غسل الإدارة الأمريكية يديها، أمام الرأي العام الغربي، من الإرهاب، وللانتقال به إلى مرحلة جديدة، وقد شكّلت هذه المجموعة من الأسئلة، والأجوبة عليها، بثاً لمجموعة رسائل سياسية وإعلامية تمثّل، في سياق المقابلة ذاتها، انتقالاً من الدفاع إلى الهجوم.
وكان المحاور في المجموعة الأولى من الأسئلة قد حرص على كشف حقيقة ما يسمى “الخوذ البيضاء”، ونذكّر أن قناة “روسيا اليوم” تعرضت لإنذارات غربية وعمليات حظر من وسائل التواصل الاجتماعي بسبب دورها في كشف تلك الجماعة الإرهابية.
المهم، تم تتويج ذلك الهجوم ببث مجموعة أخرى من الرسائل للجمهور الأوروبي، مثل أن الولايات المتحدة لا تقبل حتى بالأوروبيين كشركاء، وأن الدول التي أسهمت بدعم الإرهاب لن يكون لها نصيبٌ من مشاريع إعادة الإعمار في سورية، وأن “خطر الهجرة السورية” على الموازين السياسية في أوروبا، وبالمعية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سببه الدعم الغربي للإرهاب في سورية، وأن سورية لا تسعى خلف مساعدات غربية لإعادة الإعمار، ولا لاتفاقيات تجارية مع الغرب، وأن أوروبا فعلياً ستخرج من المولد بلا حمص كما يقال.
الجديد في المقابلة من وجهة النظر السورية والعربية، برأيي، يتعلق بأمرين، أحدهما سياسي، والآخر يتعلق بالرواية التي تفسر الحرب على سورية. أما الشأن السياسي، الذي ينعكس بشكلٍ راهنٍ على الوضع في سورية، فهو موقف الدولة السورية من العلاقة مع الأكراد، من جهة، والعلاقة مع الأتراك، من جهة أخرى.
ومن المعروف أن الحلفاء يريدون لسورية أن تتفق مع تركيا، وأنهم منزعجون جداً من ارتماء “قسد” في أحضان الأمريكيين، وفي هذا جاءت ردود السيد الرئيس سياسيةً ومبدئية في آن معاً: السيادة السورية ستعود إلى كل بقعة من الأراضي السورية، إن عاجلاً أم آجلاً، ونود، بما معناه، التفاهم حبياً مع ميليشيات “قسد” على كيفية القيام بذلك، وأن لا مشكلة لنا مع تركيا كجار، إنما نظام أردوغان يحتل أجزاء من سورية ويغزوها، وهذا لا يرشحه لأن يكون شخصاً مفضلاً للاجتماع به والحوار معه، ولكن الدولة السورية منفتحة للتفاوض، ومن البديهي، بحسب اجتهادي، أن مثل ذلك التفاوض سوف يكون على آلية خروج الاحتلال التركي من سورية.
الأمر الثاني الجديد في المقابلة يتعلق بالرواية التي تفسر بدء الحرب في سورية، وقد نفى سيادته في هذا السياق أن يكون السبب الرئيسي هو رفض سورية مد أنبوب نفط عبر أراضيها من قطر إلى تركيا، وقال: إن النفط ليس العامل الأساس في الحرب، رغم أهميته، بل الصراع الدولي والجغرافي السياسي الذي انعكس على سورية، وهذه موجهة للروس طبعاً والقوى الصاعدة.
كما نفى سيادته أن يكون السبب الرئيسي هو التوجه نحو الخصخصة والسياسات النيوليبرالية التي تم اتباعها في عهد حكومة الدردري، أو الجفاف الذي حدث في المناطق الزراعية بفعل التغير المناخي، مؤكداً أن سورية حررت الاقتصاد نوعاً ما، لكنها بقيت ملتزمة بالاشتراكية، والقطاع العام هو الذي أنقذ الاقتصاد في الحرب.
من المهم جداً أيضاً الانتباه إلى ما قاله الرئيس الأسد حول انعكاس موجة ما يسمى “الربيع العربي” على سورية، موضحاً رؤيته بأن بعض من نزلوا للشارع سلمياً كانوا يريدون تحسين أوضاعهم، أو كانت لديهم رؤىً معينة لإصلاح النظام في سورية، ولكن المشكلة الأساسية تمثّلت بانحراف ذلك الحراك، وتحوله للعنف والتطرف، واختراقه بالمال القطري منذ البداية، وهو ما دفع أصحاب المطالب المشروعة أو الرؤى المختلفة سياسياً لتركه، لتصبح خطوط الفرز أوضح بكثير فعلياً بعدها، وهو ما أكده السيد الرئيس على أية حال في خطبه الأولى، بعد بدء أحداث آذار 2011، إذ أكد أن ثمة مواطنين يطرحون مطالب مشروعة ومحقة، بعيداً عن الاختراق والعنف والتطرف، وأن الإصلاح حاجة موضوعية لتحصين الدولة، حتى لو لم تتعرض سورية لحرب، ومن هنا جاء إطلاق مشروع كبير للإصلاح السياسي بموازاة مكافحة الإرهاب، كان قد بدأ يناقش رسمياً منذ عام 2005، وما برح العمل جارياً على تنفيذه على قدمٍ وساق، حتى بعد أفول الإرهاب، وسيظل هذا المشروع الإصلاحي أحد أهم العلامات التاريخية المميزة لحكم الرئيس بشار الأسد.