أيّهذا الشاكي (3)
د. نضال الصالح
فجراً كان سيّاف الضوء أجهز على جسد مجد، فأرداه في قاع نوم عميق، ثم فيما هو يتقلّب على جمر البقاء بين نقيضين، الصحو والنوم، رأى نفسه في قاعة كبيرة تغصّ بأكثر من مئة رجل وامرأة متفاوتي الأعمار، ثمّ سرعان ما يخرج من بين أولئك غير ذئب يعدو نحوه وهو يعوي بأقصى ما يستطيع من شهوات إلى الدم. ذئاب لكل منها اسمه البشري الذي لا يليق به، ثم ما إن بدأت الذئاب نهشها في جسده، حتى حاول النجاة بنفسه، فلم يجد إلى ذلك سبيلاً سوى مغادرته القاعة بما أوتي، بل بما تبقى في جسده، من قوة، ولم يكد يبتعد عن القاعة قليلاً، حتى تناهى إليه عواء الذئاب فيما بينها، عواء كالخليع المعوّل كما كان قرأ في معلّقة امرئ القيس عن الذئب الذي لقيه الشاعر وهو في طريقه إلى دارة جلجل.
لم تكن هيئات الذئاب تختلف كثيراً عن هيئات المسلّحين الذين كانوا اقتحموا الحيّ الذي كان يسكنه قبل نحو ثماني سنوات، والذين كانت تكبيراتهم تمزّق هدأة الفجر، فتثخنه بالدم والموت والعواء. كان ثمة شيء واحد يميز هؤلاء من أولئك هو أنّ الذئاب التي رآها في القاعة كانوا حليقي اللحى، وبدلاً من الرصاص الذي كان أولئك يطلقونه على الناس كان هؤلاء يضرمون فضاء القاعة بكلام كذب شأن أخوة يوسف الذين جاؤوا على قميصه بدم كذب.
عبثاً كان مجد يفتح عينيه على آخرهما محاولاً التحرر من الكابوس الرجيم الذي كان ينوء تحت وطأته الباهظة، وما إنْ تحرّر من أغلاله العاتية، حتى استعاد بديعة أبي ماضي وصوت أستاذه وهو يردد غير مرة: “قلتُ: ابتسم، يكفي التجهم في السما”، ثمّ حتى أرعشته رغبة جارفة في الإمساك بالشاعر من كتفيه، وزلزلتهما، بينما يقول له: “وهذه الذئاب يا سيّدي؟ هذه الذئاب؟!”، وحتى خّيل إليه أنه يسمع صوت أستاذه وهو يترنم بالبيت الأخير من البديعة: “قلتُ: ابتسم، ما دام بينك والردى/ شبرٌ، فإنّك بعدُ لن تتبسما”، ثم يراه أمامه وهو يستجمع بقبضتيه طرفي عباءة باذخة البياض إلى صدره، بياض لم يكن رأى ما يشبهه من قبل سوى بياض الثوب الذي ترتديه أمه وقت الصلاة، ثمّ وهو يفتح كفّ يمينه على آخره، ويحتضن به كفّ مجد الأيسر، ثمّ ينفتح باب الغرفة أمامهما من دون أن يفعل أحدهما ذلك، ثمّ يجد مجد نفسه في أرض مترامية الأطراف، أرض قفر تتزاحم فيها حجارة صغيرة متآكلة من جهاتها جميعاً سوى رؤوسها المدببة كحراب حادة تترقب أيّ قدمين طهورين لتروي نهمها المجنون للدم، ولم يكد مجد ينتبه إلى أنه لم ينتعل حذاءه وهو يغادر الغرفة، حتى أحكم الأستاذ بقبضته على كفّه في إيماءة منه إلى أنّ عليه أن يتابع سيره معه مهما يكن من أمر تلك الحجارة التي بدت رؤوسها لمجد أشبه بأنياب تلك الذئاب التي اقتحمت الحيّ الذي كان يسكنه قبل نحو ثماني سنوات، والتي كانت تثخن هدأة الفجر بالتكبيرات الزيف، وأنياب تلك الذئاب التي…. (يتبع).