الأدب والهوية؟!
محمد راتب الحلاق
فنية الأدب تتناسب عكساً مع التصاقه بأيديولوجية محددة بذاتها دون أن يكون في قولي هذا ما يدعو لتنحي الأدب عن قضايا الأمة والانشغال بالقضايا الفنية والتقنية فحسب، فالأدب ابن بيئته ولا يمكنه أن يقفز فوق المشكلات والقضايا التي تواجهها، فهو منحاز بطبيعته إلى قضايا الوطن والمواطنين، والأدب الذي لا يتبنى القيم الإنسانية العليا ليس أدباً حقيقياً، لكن الأدب الذي جنّد نفسه في خدمة أيديولوجية معينة فقد كثيراً من قيمته الفنية، حدث هذا في الماضي والحاضر، وعند الأمم جميعاً، وفي اللغات كافة، وبقدر ما كان الأديب يلحق نفسه بدائرة إعلام جهة ما بقدر ما كان مضطراً للتخفف من التقنية الفنية لصالح النواحي التعبوية التي تهدف إلى حشد الأنصار، ولا أعيب على الأديب هذا، بل قد يكون هو المطلوب في بعض المراحل، ولاسيما حين تكون الأمة مستهدفة في وجودها ذاته، فالخطاب الأدبي والخطاب النقدي المصاحب له، لا يمكن أن يكونا في مجملهما إلا مع قضايا الأمة، بل إن الأدباء المنشغلين بالذات وقضايا الفن والجمال، حسب الظاهر، قد يكونوا من جملة المناضلين في جبهة أخرى من جبهات المواجهة مع أعداء الإنسان وأعداء كرامته، حين يعملون في سبيل الارتقاء بذائقة الفرد الجمالية، والعناية بروحه. ثم إن الظاهرة الأدبية ليست ذات طبيعة كونية عامة كما يزعم بعضهم، لأنها بطبيعتها (تعبر عن بيئة ذات طبيعة تاريخية وثقافية خاصة.. حسب تودوروف).
ولأن الأديب والناقد من أصحاب الرؤية والرؤيا، فهما يقومان باستشراف المستقبل، والحدس بما ستؤول إليه الأمور، ولا يستسلمان للوقائع التاريخية الراهنة، ولا ينظران إليها بوصفها دائمة وسرمدية، مهما بدت قوية وعاتية، وإنما يقومان بتحليل ما يتخلّق في أحشائها من عوامل ستؤدي إلى تقويضها، فيبشران بما هو آت، أو يحذران من العواقب. أنا لا أقصد الحواة والمهرجين والبهلوانات من الكتاب، ولا أصحاب الإنشاء الملفوظي الرخو والهشّ الذي لا يستند إلى الثقافة والمعرفة، فذئوان الأدب والنقد هؤلاء سيتساقطون عند أول سانحة، لأنهم واللاشيء سواء.
الخطاب الأدبي والنقدي في أمة من الأمم يعبر عن ثقافة هذه الأمة وهويتها التي تميزها من سواها، فالعرب الذين فرقتهم الحدود المصطنعة (والسلطات التي فرحت بهذه الحدود) مازالت الثقافة توحدهم وتشكل هويتهم، ومازال الأدب يخاطبهم بوصفهم أمة واحدة، وأي حديث عن أدب قطري ذي صفات خاصة تميزه من أدب الأقطار الأخرى حديث متهافت وغير ذي مضمون معرفي متماسك، ليس لأن الأدباء العرب يكتبون باللغة العربية الواحدة فقط، وليس لأنهم يتبادلون الخبرات ونتائج التجارب الإبداعية والتقنية المتعلقة بالأشكال فحسب، وإنما لأن القضايا والمضامين التي تشغلهم واحدة ومشتركة أيضاً، بغض النظر عن بعض الجزئيات والتفصيلات التي نجد مثيلاً لها عند الشعوب الأخرى، كما هي الحال بين منطقة وأخرى في الإقليم الواحد. أما بعض الأدباء والنقاد الانعزاليين الذين حاولوا أن يؤسسوا لآداب مناطقية فقد انكفؤوا يجترون بؤسهم وخيباتهم، بعد أن انكشفت خطورة ما يقومون به، حين ظهر للعيان ما يقوم به الغرباء، من تفتيت المفتت، وتحليل الأقطار العربية التي أنتجها (سايكس/ بيكو) إلى فسيفساء من الطوائف والإثنيات والعشائر، لأن القول بوجود أدب قطري سيقود مستقبلاً إلى القول بوجود أدب عشائري، بل إلى القول بوجود أدب مدن وقرى وحارات وأزقة، وهو ما لم يعرفه العرب في يوم من الأيام، حتى في أيام جاهليتهم الأولى.