الثورة ضد عملاء الولايات المتحدة غير متلفزة
ترجمة وإعداد: لمى عجاج
إن التحيّز الذي تمارسه وسائل الإعلام الأجنبية يعكس حجم التفاوت الكبير في سوية الاهتمام بالتعامل مع حركات الاحتجاج المشتعلة في جميع أنحاء العالم، خاصةً وأن جميعها تزامنت في الوقت نفسه في كل أرجاء العالم. الشعب الهاييتي يثور ضد نظامه السياسي الفاسد بزعامة الرئيس جوفينيل مويس الدمية الأمريكية. في الإكوادور نجحت التظاهرات الضخمة في إجبار الرئيس لينين مورينو على التراجع عن حزمة التقشف النيوليبرالية الجديدة المدعومة من صندوق النقد الدولي، والتي كانت ستؤثر بشكل كبير على الإنفاق الحكومي وزيادة أسعار النقل. وفي الوقت نفسه، تسبّب الإحباط الشعبي في تشيلي من إدارة سيباستيان بينيرا المحافظة في تفجير الاحتجاجات الضخمة التي عمل على الفور على مواجهتها بالقوة، مستشهداً بشعار الديكتاتور الفاشي السابق أوغستو بينوشيه بالقول: “نحن في حالة حرب”، متوعداً المسؤولين عن المظاهرات المناوئة له “بدفع الثمن”.
توالت المظاهرات المناهضة للحكومات واتسعت رقعتها لتصل إلى لبنان، كاتالونيا، والمملكة المتحدة، لكن الغريب في الموضوع أنها لم تقابل بالقدر نفسه من الاهتمام ولم تتناولها وسائل الإعلام ومؤسساته بالقدر نفسه من الأهمية، والدليل على ذلك الأسلوب الذي تناولت فيه الاحتجاجات التي اندلعت في هونغ كونغ كردّ على اتفاقية تسليم مقترحة مع الحكومة المركزية الصينية، وخاصةً بعد أن شعر المحتجون بخطرها وبأنها ستقوّض الحريات المدنية وستؤثر على وضع هونغ كونغ المتمتّع بحكم شبه ذاتي. ومع هذا احتلت “احتجاجات هونغ كونغ” الصدارة وحصدت الأرقام الأعلى في التغطية، فإذا اطلعنا على نتائج البحث الواردة في الصحف العالمية ومنها صحيفة النيويورك تايمز على سبيل المثال، سنلاحظ أن مظاهرات هونغ كونغ قد تصدّرت أعلى رقم بنسبة 282 بالمقارنة مع20 نتيجة على “احتجاجات تشيلي” و43 لإكوادور و16 لهاييتي. هذا إلى جانب التغطية المتفاوتة على شبكة “فوكس نيوز”، حيث كان هناك 70 نتيجة لهونغ كونغ سُجّلت في الفترة نفسها، بينما كانت على التوالي: أربعة لتشيلي، واثنان للإكوادور، وثلاثة لهاييتي، ما يلخص الفكرة التي نبني عليها حديثنا في منهجية الإعلام الغربي القائمة على شيطنة خصومه وإظهار حلفائه بمظهر الضحية البريئة، فالمؤسسات الإعلامية تتحيّز في تناولها للحدث وتفّرق بين الخصم والحليف، والحماس للخبر لا يرتبط بحجم الحدث وإنما بتوجهه، وهذا هو السبب الحقيقي الذي يفسّر التركيز على بعض المظاهرات وتصدّرها لعناوين الأخبار وإغفال بعضها الآخر وتجاهله ضمن سياسة التعتيم الممنهجة. نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” ثلاثة مقالات افتتاحية في ثلاثة تواريخ (6/10/2019، 14/8/2019، 10/1/2019) أثنت فيها على” أصحاب العقلية الديمقراطية” في هونغ كونغ، مقابل إدانة ردة فعل الصين بهدف تشويه الحقيقة وقلب الوقائع، وهنا لابد من التنويه بأن “التايمز” لم تأت على ذكر الاحتجاجات الأخرى في افتتاحياتها. لكن “التايمز” سخرت من فكرة أن “القوات الأجنبية” والمقصود بها الولايات المتحدة الأمريكية قد تورّطت في التأثير على الاحتجاجات، معتبرةً أن هذا الاتهام هو مجرد “إشاعات كاذبة” على الرغم من إثبات حقيقة تورّط المؤسسة الوطنية الأمريكية للديمقراطية (NED) بشكل رسمي في ضخ ما يزيد عن 22 مليون دولار بهدف تحديد سبل جديدة للديمقراطية والإصلاح السياسي في هونغ كونغ. كما لم تتطرق صحيفة “التايمز” إلى التمويل الأمريكي لأنه على الأغلب سيزيد من حقيقة ضلوعهم الفعلي كقوى أجنبية خارجية في احتجاجات هونغ كونغ التي سبق أن كذبوها ووصفوها بالقديمة والمبتذلة.
في حالة الإكوادور، أدانت وسائل إعلام عدة مثل صوت أمريكا 10/11/2019، وميامي هيرالد 10/9/2019، ورويترز في 10/9/2019 بكل حزم الاحتجاجات الإكوادورية، ووجّهت أصابع الاتهام إلى قوى خارجية، متهمةً إياها بالضلوع في التدبير لهذه الاحتجاجات، وأن العقل المدبر لها هو الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بينما ذهبت صحيفة “الغارديان” 10/8/2019 إلى حدّ وصف الإكوادوريين بالقول بأنهم لا يتمتعون “بعقلية ديمقراطية” وبأنهم “مثيرو شغب” ، التوصيف الذي لم يستعمل فيما يخصّ احتجاجات هونغ كونغ، فالتغطية الأقل تكون من نصيب الاحتجاجات التي يحتج فيها الناس “الخطأ”، وفي هذه الحالة تكون أيضاً الحكومة “الخطأ” هي التي تقوم بالقمع، تماماً كما كان رأي الواشنطن بوست (14/10/2019) فيما يخص الاحتجاجات في هاييتي.
تدعم الولايات المتحدة جهود الرئيس مورينو وحكومة إكوادور لإضفاء الطابع المؤسّسي على الممارسات الديمقراطية وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، وتؤكد حرصها على العمل في شراكة دائمة مع الرئيس مورينو لدعم الديمقراطية والازدهار والأمن. بعبارةٍ أخرى لا تتوقع أي مقال افتتاحي غاضب يستنكر الثورة في الدول العميلة للولايات المتحدة مثل هاييتي أو الإكوادور، أو يجادل بأن قمع الحكومة التشيلية لحركة الاحتجاج خاصتها يوضح الإفلاس الأخلاقي للرأسمالية، والذي ساهمت مؤسساته الإعلامية ( كالغارديان10/8/2019، والسي إن إن 10/8/2019، وأمريكا اليوم 10/10/2019 على تأكيده عندما أدانت العنف الممارس من المتظاهرين الإكوادوريين بينما قلّلت من شأن هذا العنف عندما تعلق الأمر بالمحتجين في هونغ كونغ، حتى أن صحيفة نيويورك تايمز (30/6/2019) ابتدعت مفهوماً جديداً للعنف تحت مسمّى “اللاعنف العدواني” لتوصف أفعال المحتجين في هونغ كونغ، بينما كانت في غاية الحرص على تأطير المظاهرات ضد الصين وتوصيفها بالجديرة بالثناء.
خلاصة القول، لا تتوقع الظهور الحافل لكاميرات التلفزيون، ولا تتوقع بثّ الثورة عندما تكون موجهة ضد عملاء الولايات المتحدة الأمريكية، فقضايا الفساد والإصلاح ومطالب الشعب مسألة لا تهمّ مؤسسات الإعلام الغربي، لأن ما يهمّها فقط هو شيطنة الثورة ضد أعداء الولايات المتحدة الأمريكية!.