من أزمة الدولة إلى أزمة المجتمع
لا بديل اليوم عن نجاح مؤسسات الدولة الوطنية في تشكيل وعي مطابق (الثقافة القادرة على النهوض بمستلزمات حل الأزمة) ينطلق من أن العلاقة بين أزمة الدولة وأزمة المجتمع هي علاقة عضوية وليست جدلية.
ولطالما عملت الأحزاب والمنظمات والنقابات، وكذلك الأنظمة السياسيّة، على توسيع قاعدتها الشعبيّة، وكسب المزيد من تأييد الشارع. وكان هذا مبعث اعتزاز واطمئنان لقياداتها وكوادرها، وبالمقابل لطالما عملت القوى المضادة على العبث بهذه القاعدة ما أمكنها ذلك.
اليوم، يبدو أن هذا صار من الماضي، فهناك قوى وتيارات طالعة من الشارع عصيّة على التصنيف لا برامج واضحة لديها، ولا قيادات وطنية، ولا نخب مطمْئِنة، ولا نظرية معرفية ولا أبجديات ولا خطط واعدة بمشروع قابل للاتفاق عليه شعبياً في المدى المنظور، وإنما نزول إلى الشارع “ظاهره عفوي” يحمل ثلاثية: المطلبية – المظلومية – التغيير، لكن مع سؤال كيف، ومن، ولمن؟! لا تجد جواباً، فالفوضى منشودة بحد ذاتها أولاً، ولننتظر الجواب من المتربصين الذين ليس هم على عجلة من أمرهم، لأن أسيادهم ليسوا هم أيضاً على هذه العجلة. فلتمضِ الأيام والأسابيع والأشهر، ولا مشكلة كذلك في السنين، المهم استمرار الضياع، وعدم الاستقرار، وفقدان الثقة بالدولة وبالمجتمع معاً. فالفوضى بنّاءة؟!!
ومن الواضح تماماً أن المثقفين العرب في أغلبهم وقفوا حيارى أمام هذه الظاهرة، وقعوا بين المطرقة والسندان، وهنا برز دور المحلل السياسي الذي بات يشعر مع مرور الزمن بثقله على المجتمع والدولة في هذا المضطرب غير المعهود والذي يبدو أنه طويل.
فنادراً ما نحظى بنص لمثقف وطني وعروبي انبرى لتشخيص هذه الظاهرة دون أن تلاحقه الاتهامات، ما أدى إلى حالة من العزوف عن مناقشة هذه الظاهرة عند كبار المثقفين، ما جعل أزمة المثقفين اليساريين تطفو على السطح هذه الأيام خاصة. فاستفاد مثقفو البترودولار في إمعانهم بتضليل الجمهور.
وصار واضحاً أن هكذا شارع لم يعد متأنّياً متبصّراً شاعراً بالحاجة إلى دور (المثقف العضوي) في هذا المأزق الذي يعصف بالدولة وبالمجتمع على السواء، وبالمقابل صار هذا المثقف – إذا كان موجوداً بالأصل – غير قادر على إدراك خفايا حركة الشارع فبقي حتى تاريخه على حرج من أمره، ومن مهامه أيضاً، متردداً يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ما اضطر السياسي أو المحلل أو وسائل الإعلام والتواصل إلى محاولة تدارك غياب الدور المنشود للثقافة الوطنيّة والعربيّة، فكانت المهمّة عسيرة، بل عسيرة جداً.
فسيطر القلق على الدولة، وعلى المجتمع أيضاً، على المؤسسات التنفيذية وعلى الشارع سويّة، وغاب الوعي المطابق المقنِع واللازم لتبديد الشكوك المتبادلة حول الاتفاق على المشترك بين الطرفين: على المصلحة الوطنية، وعلى الوعي والانتماء في وقت يتفاقم فيه الصراع على استقطاب وعي الشعب وهويته وانتمائه.
واليوم هناك كثيرون يرون أن لا مشهد احتجاجياً في هذه المنطقة يناهض المصالح الأمريكية، مقابل أن هذه المشاهد جميعها “الربيع العربي” تحظى بتأييد الإدارة الأمريكية ورعايتها، وهذه مشكلة حين لا يدرك أبناؤنا في الشارع أن التأييد الفوري للأمريكان لأي مظاهرة في الشارع لن يأتي عبثاً. لكن المشكلة الأكبر أن التشكيك في الشارع، لا ينفصل عن التشكيك في المجتمع، وبالتالي في الشعب، وهذه معضلة لا شك أمام الأنظمة الوطنية وكذلك الأحزاب والمنظمات والنقابات الوطنيّة التقدميّة.
وهنا تبرز أزمة الدولة خاصة حين يتجاهل المجتمع أن هذه الدولة هي بالأساس مأزومة بالعقوبات، وبالحصار، وبالحروب الناعمة التي تنعكس سلباً عليها وعلى الشارع سويّة، وأن هذه العقوبات والحصار والحروب الناعمة تستهدف الشعب قبل أن تستهدف الأنظمة ما يجعل شعارات المظلوميّة والمطلبيّة في الشارع رديفاً للعقوبات والحصار وخير دليل مانراه متجلّياً في أوضاع المجتمع والدولة في لبنان والعراق اليوم، وفي غيرهما أمس. خاصة إذا أخذنا بالحسبان أن دول التطبيع مع الصهيوأمريكي لاتزال – حتى تاريخه – بعيدة – من حيث الظاهر – عن هكذا أزمات.
ولذلك يخطىء من يظن أن الأمريكان مقتنعون بمشروعية (مطالب شعبية من أصحاب الحقوق ضد أصحاب الامتيازات)، فهم قبل أن يقرروا نهاية الاستثمار في أبي بكر البغدادي، كانوا قد أعدوا مسبقاً إشعال نار المجتمع حول دولة المقاومة من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق.
ولن يكون رفع الأعلام الوطنية في بيروت وبغداد مقنعاً ومبرراً.
د. عبد اللطيف عمران