أثمّة فضل للطّغاة على الفكر والثّقافة؟
هناك مفاصل في التّاريخ لها خصوصيّتها، كأن تضع ظروف تاريخيّة معيّنة رجل المعرفة والتفكير، أي “المثقف” حسب مصطلحات العصر الحديث بمواجهة رجال الحكم والسّلطة، فيختار البعض الغرق في النّعيم للحصول على امتيازات شخصيّة على حساب كلّ من المصلحة العامة والموقف الموضوعي الذي يتطلّبه العلم والثقافة منهم كأصحاب رسالة تنويريّة في المجتمع، وقد يتجافى هذا المثقّف مع السلطة ليخسر بعدها الكثير على المستوى الشخصي، وتخسر الثقافة بالمعنى الموضوعي انتشارها وتعميمها، وهذا يتناغم بدوره مع أساليب السلطة في التّرغيب والتّرهيب أيضاً. وثمّة من يقف في المنطقة الرّماديّة الملتبسة، لتنال الثقافة شيئاً من حضورها في التاريخ وينال “المثقّف” شيئاً من العطايا. ثمّة أمثلة تاريخية متباينة بهذا الصّدد منها “لقاء أرسطو طاليس مع الإسكندر المقدوني، وبزرجمهر مع كسرى أنوشروان، والمتنبّي وسيف الدولة، ومكيافيلي مع الأمير الفلورنسي سيزار بورجيا، وابن خلدون مع تيمورلنك، الذي كان يسمّيه “تمر” وهو موضوع سرديتنا هذه.
قد تتشابه الأمثلة السّابقة بالدوافع النفسيّة، فالفنان الشاعر داخل المتنبي مثلاً، كان يبحث عن حاكم متفهّم لمناقبيّته، ولإحساسه العالي بنفسه، يحقّق من خلاله طموحه الشخصي بمكانة اجتماعيّة مهمّة، فوجد مآله بشخصية الأمير “سيف الدولة الحمداني”، وربّما وجد “مكيافيلي” المفكّر السياسي بشخصيّة الأمير الداهية البطّاش “بورجيا” ما يوافق تصوّره للقاعدة البراغماتيّة القائلة “الغاية التي تبرّر الوسيلة”. ذاك الأمير الذي لا تعيقه الأخلاقيّات المتعارف عليها عن بلوغ الغاية المقصودة، وأمّا “ابن خلدون” المؤرّخ وعالم الاجتماع العربي الذي كان همّه تسجيل ما هو واقع واستنتاج الأسباب التي أصبح بها هذا الواقع واقعاً، وهي أسباب حتميّة برأيه، فربّما رأى الرجل المناسب في سلطان المغول والتّتر لتحقيق نظريّته الخاصّة في “العصبيّة هي أساس الملك” حيث الحكم المرهوب الجانب الذي يبحث عنه ابن خلدون. مسترجعاً ذكريات تنقلاته الواسعة بين “أشبيلية” بلد أجداده في الأندلس و”دمشق” آخر مطافه. أهي المسألة هكذا حقّاً؟.
هناك أمثلة أخرى، كالموقف من “معرّة النعمان، بلدة الشاعر أبي العلاء المعري التي سلمتْ من الغزو والنّهب كما قيل، لما سمعه الغازي عن حكمة شاعرها الجليل، لكنّ ذلك لم يحمْها حديثاً من وحوش العصر الحالي، وقد أخذوا ثأرهم الرّمزي حتى من تمثاله الذي لم ينجُ من التّكسير. في السيره الذاتية لـ “ابن خلدون” يشير مفكّرنا الكبير دون مواربة إلى من أحسن إليه من رجال السلطة وإلى من امتحنه ونكبه منهم، وقد نجد اهتمامه بالحاكمين الذين عرفهم أقلّ بكثير من اهتمامه ببعض من كان له حظّ من علوم المعقول أو المنقول من أساتذته أو صحابته، باستثناء هذا الحاكم المغولي “تيمور” ويعني لقبه “لنك” الأعرج” الذي وصفه جسديّاً ونفسياً، ولم يتورّع عن إيراد ما قاله هو بنفسه لهذا الحاكم، ممّا يمكن أن يؤخذ عليه كمفكّر عقلاني وموضوعي فيبدو أشبه بالمداهنة والنّفاق. ثمّة فصلان كتبهما “ابن خلدون” بهذا الخصوص، هما: “لقاء الأمير تمر سلطان المغل والططر” و”الرجوع عن هذا الأمير تمر إلى مصر” فهما مكتملان بالوصف والإشارات النفسية والحوار الفني ويختلفان بهذه الصفة عن سائر فصول سيرته الشخصيّة، مما يوحي بالمنزلة التي حلّها الطاغية “يمور” من نفسه. كما يقول د. “عبد السلام العجيلي”.
يقول “ابن خلدون” عن هذا الّلقاء: (ففاتحتُه وقلتُ: أيّدك الله، لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنّى لقاءك، فقال لي: وما سبب ذلك؟ فقلتُ: أمران، الأوّل: أنّك سلطان العالم، وملك الدنيا، وما أعتقد أنّه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولستُ ممّن يقول الأمور جزافاً، فإنّي من أهل العلم، وأبيّن ذلك فأقول: إنّ المُلك بالعصبيّة، وعلى كثرتها يكون قدر المُلك) وأمّا الأمر الثاني ممّا يحملني على تمنّي لقائك فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب الخ.. إذا قارنا هذا الكلام مع ما رواه ابن خلدون نفسه عن بطش هذا الغازي السفاح في كلّ مكان وطأته خيوله، فهل تستقيم معنا الرؤية؟ ليعود بعدها إلى مصر متولّياً قضاء المالكية مرة ثالثة ورابعة وخامسة. إنّ علميّة “ابن خلدون” لا يشكّ بها بمقاييس كثيرة، أمّا موقفه من أهل السلطان فيتراوح بين مذهبين كانا معروفين آنذاك: أحدهما الذي ذهب إليه “القاضي الجرجاني” من ذوي السلطان وعكسه شعراً بقوله:
أرى الناس من داناهم هان عندَهم
ومن أكرمته عزّة النفس أكرما
ولم أقضِ حقّ العلم إن كان كلّما
بدا طمعٌ صيّرته لي سلّمــــــــا
إذا قيل هذا مورد قلتُ قد أرى
ولكنّ نفسَ الحرّ تحتمل الظَّمــــا
والمذهب الآخر مذهب “رويم” الذي قيل عنه بأنّه كان كاتم أسرار كبير، كتم حبّ الدنيا أربعين سنة حتى وجدها، وهو عالم بالقرآن ومتفقّه بمعانيه وكان مضرب المثل بالزهد ولكن حين ولّيَ صديق له القضاء وقرّبه منه وحكّمه بأمور الناس، ترك التفقّه والتصوّف وأظهر حبّ الدنيا. وفي الختام هل يخوّلنا هذا على الاعتراف بفضل الحاكم الجائر على الفكر والثّقافة حيث بقي “ابن خلدون” متفرغاً لاستنتاجاته في قواعد الحكم والسياسة واحتفظ التاريخ بأفكاره الاستقرائيّة للأجيال القادمة.؟!.
أوس أحمد أسعد