رقصة القمر مع آينشتاين.. فن وعلم وتذكر كل شيء
لم يكن هناك ناجون آخرون، يصل أفراد العائلة إلى المشهد في القرن الخامس قبل الميلاد، وفي قاعة الطعام كانوا يبحثون عن علامات تدلهم على أحبائهم، خواتم، أحذية، أي شيء يمكنه مساعدتهم على التعرف على الجثث كي يتمكنوا من القيام بدفنها. قبل عدة دقائق كان الشاعر اليوناني سيمونيدس قد وقف ليلقي قصيدة غنائية احتفالاً بسكوياس، أحد نبلاء ثيساليا وعندما جلس سيمونيدس قام رسول بلفت انتباهه بأن هنالك شابين ينتظرانه في الخارج، يتوقان لإخباره بشيء ما، وقف سيمونيدس مرة أخرى وخرج من الباب وفي اللحظة ذاتها التي اجتاز فيها حدود القاعة تحطم سقف قاعة الطعام على الحاضرين وخلّف عاصفة من الرخام والغبار.
وقف الآن سيمونيدس ولكن أمام مشهد من ركام الأجساد هذه المرة، الهواء الذي كان مليئاً بالضحكات الصاخبة قبل لحظات، أصبح مليئاً بالدخان والصمت، بدأت فرق الإنقاذ تعمل بسرعة للتنقيب بين حطام المبنى، كانت الجثث التي تمكنوا من سحبها مختلطة مع بعضها لدرجة أنهم لم يستطيعوا التعرف على أصحابها، ثم حدث شيء خارق للعادة سيغير الطريقة التي يفكر فيها الناس في ذكرياتهم إلى الأبد، تجاهل سيمونيدس حواسه وأعرض عن الفوضى والضجيج الذي حوله وقام بالتركيز على مخيلته حيث بدأت أكوام الرخام بالعودة إلى أعمدتها، وكذلك النقوش التي عادت إلى أماكنها في السقف، أواني الخزف المحطم تشكلت من جديد وعادت إلى صورتها الأصلية، شظايا الخشب تحركت ببطء لتعود طاولة كما كانت، التقط سيمونيدس لمحة لمواقع ضيوف الوليمة من مقعده على الطاولة، دون علمهم بالكارثة وشيكة الحدوث، رأى سكوياس وهو يضحك في صدر الطاولة، ورأى صديقه الشاعر يجلس أمامه ويحاول التقاط بقايا الطعام في صحنه بقطعة من الخبز، ورأى رجلاً نبيلاً يتكلف الابتسامة، ثم التفت إلى النافذة ورأى الرسول وهو يقترب منه، ليخبره بشيء مهم، وبعدها فتح سيمونيدس عينيه وقام بأخذ كل فرد من الأقرباء الذين كانوا يبكون إلى مواقع آبائهم واحداً بعد الآخر وهو يمشي بحذر بين الحطام، حتى تمكن من تحديد مواقعهم جميعاً على الطاولة، وفي تلك اللحظة وفقاً للأسطورة وُلد فن الذاكرة. هذا ما ورد في مقدمة كتاب “رقصة القمر مع آينشتاين” للكاتب جوشوا فوير، في الواقع العنوان مضلل تماماً، لأنه في الحقيقة ليس كتاباً عن الفيزياء، بل هو كتاب عن فن الذاكرة وهو أيضاً ليس دليلاً حول كيفية أن تصبح خبيراً في الحفظ، بل هو كتاب مرجعي/ إعلامي حول العديد من الموضوعات المثيرة للاهتمام، من فن الذاكرة إلى تاريخ الطباعة، إلى متلازمة سافانت في تحديد الخبرة في اللغويات، العلوم الإنسانية، الأساطير، علم النفس، علم الاجتماع، علم الأعصاب وتستمر القائمة، حيث تمكن فوير من تغطية الكثير من الأبحاث في عمله، حيث كان يكتب في البداية مقالاً في مجلة حول بطولة الذاكرة الأمريكية، هذه مسابقة التي يشترك فيها مجموعة من “الرياضيين العقليين” المهووسين الذين يتنافسون في أحداث مثل حفظ سلاسل طويلة من الأرقام العشوائية، وأوراق اللعب، وأبيات الشعر.
فوير ينسج تجربته في تدريب الذاكرة ويوثقها بالبحث والعودة إلى تاريخ الذاكرة، بأسلوب غير رسمي يأخذ القارئ في رحلة متعرجة ورائعة، هو صحفي اصطدم مصادفة بالذاكرة في بطولة لها، ويقرر التدريب لمدة عام ويتنافس لاختبار نظرياته، في هذا الكتاب يقوم بمقابلة العديد من المتسابقين الذين يصرون على أن أي شخص يستطيع الوصول إلى هذه المرحلة من التذكر الخارق، الأمر يتعلق بالتعلم ببساطة، والتفكير بطرق أكثر قابلية للتذكر، واستخدام تقنية الذاكرة البسيطة والتي يعود عمرها لأكثر من 2500 عام، والتي يطلق عليها اسم “قصر الذاكرة”، وهي التقنية ذاتها التي اخترعها سيمونيدس على أنقاض قاعة مأدبة الطعام ذات يوم.
يتحدث فوير عن الحيل التي يستخدمها المتسابقون والتي هو نفسه استفاد منها، وهي عبارة عن مجموعة من التقنيات تهدف إلى تدريب عضلة العقل ومنها تقنية قصر الذاكرة والتي تعرف أيضاً بأنها طريقة الرحلة، أو فن الذاكرة، كل هذه المسميات تم إعادة اكتشافها وترتبيها حسب عدد من القواعد والتعليمات بواسطة الرومان، وعلى رأسهم شيشرون وكوينتيليان، ثم ازدهرت هذه التقنيات في العصور الوسطى كطريقة لحفظ كل شيء من الخطب والصلوات إلى العقوبات التي تنتظر المذنبين، كانت تلك هي الخدع ذاتها التي استخدمها السياسيون الرومان لحفظ خطبهم وهي ذاتها التي استخدمها علماء القرون الوسطى لحفظ كتب بأكملها.
يذكر فوير في كتابه مقابلته لشخص اعتبر قائد النهضة في تدريب الذاكرة، وهو توني بوزان البريطاني الذي يعتبر مخترع الخرائط الذهنية والقراءة السريعة، والذي يعتقد أن الإنسان “الذي يأكل طعاماً سيئاً فإنه سيحصل على عقل سيء، وإن أكل طعاماً صحياً فإنه سيحصل على عقل صحي”.
إلى جانب المعلومات الرائعة التي تورد في الكتاب كانت هناك تجربة الكاتب نفسه التي يوثق فيها عامه في التدريب، وانتقاله من مراسل في هذا الحدث ليصبح منافساً جدياً في حدث العام التالي حيث كان قادراً على الفوز بلقب بطل ذاكرة الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2006.
تمثل أرقام الهواتف وأعياد الميلاد المنسية تآكلاً بسيطاً في ذاكرتنا اليومية، لكنها جزء من قصة أكبر بكثير عن كيفية استبدالنا لذاكرتنا الطبيعية بهيكل فائق من العكازات التكنولوجية من الأبجدية إلى الهواتف الذكية، ساعدت تقنيات تخزين المعلومات هذه خارج عقولنا على جعل عالمنا الحديث ممكناً، لكنها غيرت أيضاً طريقة تفكيرنا وكيف نستخدم أدمغتنا، فالتجربة هي مجموع ذكرياتنا وحكمة مجموع تجاربنا، وإذا اتبعنا هذا المنطق فإننا نكتسب حكمة من خلال ذكرياتنا.
عُلا أحمد