“وطن وخبز وذاكرة”.. تعكس روح الإنسان في الحياة
أربع عشرة قصة ضمنتها القاصة رندة عوض في مجموعتها القصصية “وطن وخبز وذاكرة” وكأنها أغانٍ مثقلة بالشجن، وفي غالبيتها تداعيات لذاكرة تعشش في داخلها تفاصيل من عالمها المحمول في حقيبة ربما ناءت بثقلها، قصص تجمع ذكريات وطن يحمل الهموم. وقد أقام فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب ندوة نقدية حول المجموعة وفي البداية يتساءل نصر محسن عن الكلمات الثلاث التي شكلت عنوان المجموعة حيث قال:
هل الكاتبة تبحث عن وطن؟ أم هي تحنَّ إلى وطن لها فيه مالها من ذكريات؟ والخبز مفردة من مفردات الوطن ذاك وقد برز من الذاكرة بشكل عفوي، والذاكرة التي تحمل الماضي بكل تفاصيله لتفرشه أمامنا وتملأنا بمشاعر الغربة القاتلة. ولا تتركنا الكاتبة طويلاً في حيرتنا، فمنذ بداية القصة الأولى تبدأ الأجوبة ترشح، وعبر القصص كلها وعلى مدى يزيد عن مئة صفحة، إذاً هو الوطن المحمول والحامل، محمول في القلب وفي الذاكرة، وحامل لكل الآمال والأحلام والمواجع.
وأضاف محسن: أربع عشرة قصة مشحونة بالانفعالات الشفيفة والصادقة بعفوية يرتفع منسوبها كلما تراءى المربى للكاتبة بتفاصيل حكائية تجعلها تقول ما قالته بكل بساطة وسحر جعل من الكلمات ألواناً للوحات ولا أجمل حين جاءت بلغة دافئة، وهذا أقل ما يقال عن وصف للغة القص لدى الكاتبة رندة عوض، وقد استحوذت على لغتها بشكل لافت، سواء أكان من حيث المستوى كحامل للفكرة أم من حيث القواعد والنحو إذ قلّما نجد خطأً نحوياً، هذه اللغة الدافئة، المعبّرة والخازنة لمشاعر لا حصر لها لاشكَّ أنها شكّلت رافعة للقصص كلّها، شاركها الأسلوب السردي المتميز، والذي يمسك القارئ من تلابيبه فلا يستطيع أن يترك القراءة حتى ينجز مابين يديه كاملاً. نحن أمام كاتبة سيكون لها شأن في قادم الأيام إذا استمرت بالاشتغال على مشروعها الإبداعي، وقد تتجاوز الكثير من الكتاب والكاتبات.
وطن جديد
أرادت الكاتبة أن تحكي مأساة الوطن المزروع في ضميرها، إذ قال عماد نداف: الوطن الذي يغيب اسمه عن سطور القصص أي “فلسطين”، فإذا هي تحكي عن سورية وفلسطين معاً، وترفع صرختها العالية: “أنا من أرض الله الواسعة، فلتسقطوا عني جواز السفر” تنشئ رندة وطناً جديداً هو الكتابة، فتراها مفتاحاً للحياة، هذا الدمج بين المفاهيم المتعلقة بمعنى الوطن لكل واحد فينا، ولكل لحظة من حياتنا، يؤكد أن الإنسان يمكن أن يكون موجوداً بلا وطن، وعند رندة يعود إلى تجذّر الروح الإنسانية في ضميره.
الحنين
وقدمت الصحفية فاتن دعبول شهادة في مجموعة عوض القصصية، التي عبرت عنها بالقول: قصص المجموعة في غالبيتها تداعيات لذاكرة تعشش في داخلها تفاصيل من عالمها المحمول في حقيبة ربما ناءت بثقلها، فأرادت أن تلقي عن كاهلها بعد أن أنهكها التذكر والحنين إلى وطن وإلى رغيف الخبز الذي يجمعها على مائدته الغنية، لكن رغم الصعوبات وهذه المزق من الوطن الكبير، وهذه الحدود التي تدك سياجاً تسد منافذ الحياة في القلوب، وتجعل العيون ترشح لساعات بقطرات دافئة، لكنها تعود فتحيا من جديد وتورق ياسمينة تنام بفيئها وتحلم بتأشيرة برسم السحاب، وبالسفر مع الريح بانتظار عناق آخر يجدد ماهي ولادة وانبثاق من الحياة أم كفن لموت آخر.
ولأعراس الياسمين حكاية مختلفة، حيث الظلام الدامس، ومكان ضيق رطوبته خانقة، أصوات تكاد لا تُسمع وزغاريد تشق عنان السماء، إحداهن تقول: زغردي يا أم ياسين للعريس إنه العريس والشهيد معاً. في مجموعتها تطل علينا في غير مكان، بيارق من أمل خجول، يتمطى ليعلن تحدياً خافتاً تغلبه آهات الغربة والحزن وهي تحوم حول وطن يسكن في القلب والذاكرة. وما كنت أتمناه أن نترك إرثاً لأبنائنا أكثر إشراقاً فيه من الأمل والتفاؤل للقادمات من الأيام، زاداً لهم في حياة ملؤها المحبة والسلام في وطن يجمعنا على رغيف الخبز وأصدقاء الطفولة وأفق من ذكريات تعانق في فرحها عنان السماء.
ذاكرة
ويجد وفيق أسعد في هذه المجموعة وطناً وخبزاً وذاكرة، وقال في شهادته: يوجد وطن تحمله القاصة أينما رحلت، وخبز تشم رائحته أينما كانت، وذاكرة امتلأت بالحزن والوجع، بالقهر والطفولة، لكنها ذاكرة من حب وحنين، إذ تحدثنا القاصة عن الوطن الأم: فلسطين، والأم البديلة: دمشق، دمشق بأدق تفاصيلها: الخبز، الياسمين، الباعة، النساء، الأطفال، الأسطحة، الزواريب، العادات والتقاليد لتؤكد للقارئ أن علاقتها بالأمكنة هي علاقة الجسد مع الروح، لقد تناولت الحياة كما الحياة، والحرب لا كأي حرب، أغلب القصص تبدأ بسؤال: كيف سُمح لي أن أعيش حتى الآن؟ – مَنْ أعطاني عمراً؟ برأيك يا بني من وراء كل ما يحدث لنا في الوطن العربي؟!.. وتنتهي أيضاً بسؤال، ومابين السؤال والسؤال، ربما نجد جواباً وربما يُترك لنا حرية الجواب من خلال حكاية لطيفة أو حكاية لا نجرؤ على البوح بها إلاَّ كما تناولتها القاصة، فهي تكتب لنا نحن الكبار وكأنَّها تكتب للأطفال، بمعنى أنك تشعر في كل قصة أنكَ طفل، طفل كبير -وهذه تُحسب لها- المجموعة جميلة مكثفة، لغتها سلسلة، شعبية، سردها رشيق وكأنها تسير على خيط رفيع من المباشرة لكنها لم تقع بالمباشرة.
مجموعة تبشر بولادة قاصة جميلة، رندة عوض تستمد قصصها من الكون والعالم والإنسان ومن صميم الواقع المتناقض وأنوار الحياة ومشاكلها التي لا تنتهي.. قصص تمثل مرآة تعكس روح الإنسان في الحياة والحرب.
جمان بركات