موجة ثانية من المد اليساري اللاتيني

يبدو أن الموجة الثانية من المدّ اليساري في أمريكا اللاتينية، بعد فترة التوهج الأولى التي كانت بقيادة الراحل هوغو تشافيز، قد أزعجت كثيراً حكام واشنطن ودفعتهم إلى الرمي بكامل ثقلهم لإحداث تغيير ما يعيد ترتيب الأمور في منطقة طالما عُدّت الحديقة الخلفية لواشنطن، وأنها أي –القارة الجنوبية- لا يمكن لأي قوة في العالم التدخل فيها بمعزل عن الموافقة الأمريكية، ولهذا رأينا الحنق الأمريكي الكبير من الدور المتجدّد للاتحاد الروسي، والجديد للصين، اللذين جنّبا فنزويلا كثيراً من مخطط الفوضى، الذي رسم بعناية في الدوائر الأمريكية.
واليوم وبينما كانت الأنظار تتجه لما ستقوم به واشنطن من أفعال للحفاظ على ماء وجهها، الذي أريق بعد الصمود الكبير للشعب والجيش والقيادة الفنزويلية البوليفارية، فوجئ العالم للوهلة الأولى بما يجري في بوليفيا، من أحداث متسارعة في أعقاب الانتخابات العامة والرئاسية، كعملية الانقلاب الفاشلة، قبل أن تتضارب الأنباء حول فشل المحاولة واستقالة الرئيس إيفو موراليس.. ما يعني أنه حتى المحاولة في بوليفيا لم تكتمل وبقيت القوى الوطنية واليسارية ثابتة في مواقعها دون أن تحقق واشنطن ما تريد من وراء ذلك على الرغم من كل البروباغندا الإعلامية التي قادتها لذلك.
ولكن في الوقت عينه يبدو أن قوى اليسار العريقة في تلك البلدان، التي عانت كثيراً من الاستعمار والاضطهاد، قد عالجت الأخطاء التي كانت سبباً لخروجها من سدّة الحكم خلال الفترة الماضية، والدليل ما بات واقعاً اليوم بعد فوز المرشح اليساري في الأرجنتين بعد دورتين لمرشح يميني، والأمر ذاته في الإكوادور، وأيضاً ما يجري في تشيلي من احتجاجات تقودها القوى اليسارية في مواجهة اليمين الحاكم، وحتى البرازيل، التي يحكمها اليمين المحافظ بقيادة جايير بولسونارو، باتت الأمور في طريق استعادة القوى اليسارية مكانها الطبيعي بعد خروج الرئيس العمالي السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا من السجن، وبدء مرحلة جديدة من العمل لإعادة تنظيم اليسار، فالمعركة في البرازيل سيكون انعكاسها كبيراً على كامل القارة في حال تمكن لولا من حسم المواجهة لصالح تياره الواسع.
ما يعني أن السعي الأمريكي لإحداث خرق في القارة اللاتينية أمامه الكثير من العقبات والمشكلات، فالقاتل الاقتصادي الذي كان عصاً غليظة في مواجهة الحكومات اليسارية، والسياسات الاقتصادية الليبرالية التي أنتجت تسلّطاً هائلاً من القوى المالية على كل شيء في هذه البلدان، والأعمال التخريبية للمخابرات المركزية الأمريكية، والتدخل العسكري المباشر، لم تعُد تنفع أمام إصرار قادة اليسار، المنحدرين من أصول لاتينية “سكان البلاد الأصليين”، على المضي قدماً في الحفاظ على تحرّرهم وبناء مستقبلهم بعيداً عن الضغوط والهيمنة الأمريكية التي لم تجلب سوى التسلّط والفوضى وضياع الثروات، وما يجري حالياً من محاولات للرئيس البرازيلي اليميني “بولسونارو” لبيع أجزاء كبيرة من غابات الأمازون لشركات أمريكية عملاقة هو مثال صارخ على تصرّف هؤلاء الحكام بمقدّرات بلدانهم إرضاءً لواشنطن.
والحال فإن المشهد في أمريكا الجنوبية سيبقى مفتوحاً على جميع الاحتمالات بفعل التدخل الأمريكي المستمر، الذي يرى في عودة اليسار إلى سدة الحكم بمنزلة خسارة كبيرة جداً لا يمكن أن تعوّض، ولاسيما أن هذه القوى اليسارية لم تعد سياستها تتوقّف عند حدود الرفض لما تقوله واشنطن، وإنما باتت تتخذ مواقف عالمية في الكثير من القضايا المصيرية، أي أننا أمام مشهد جديد من التحالفات بينها وبين القوى الدولية الفاعلة على الساحة العالمية، قد يكون المفتاح لإنهاء دور واشنطن ومشاريعها بالكامل من هذه القارة اللاتينية.
سنان حسن