في عهد التصحيح.. تحولات عززت الاستقرار وبنت دولة المؤسسات
ليس واجباً علينا أن نحتفل ونتغنى بفترة زمنية تميزت بجملة من التغييرات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، بل هو حق من حقوق الشعب العربي السوري، فهي فترة انتقال جذري أخذتنا من مرحلة التشتت وعدم الاستقرار إلى مرحلة الوجود والعمل وصناعة الدولة القوية صاحبة السيادة والاستقلال والبناء، ولم يكن ذلك بالأمر السهل حينها، وإنما كان نتيجة تضحيات كبيرة، واستراتيجية واضحة تحمل هدفاً سامياً للوطن، وتسعى للوصول له ضمن تحديات كبيرة خارجية وداخلية، وبغض النظر عن وجهات النظر المختلفة في هذا الشأن، إلا أنه لا أحد يستطيع نكران ما تم إنجازه تلك الفترة التي كانت بمثابة عهد جديد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالتغيير حينها طال المجتمع السوري برمته، وفتح آفاقاً جديدة لبناء الإنسان السوري.
حجر الأساس
فرضت تلك المرحلة وضع أساسات بناء متماسكة وقوية، فكان لابد من البدء بإقامة المؤسسات، وخلق قواعد جديدة ترسّخ أهمية الأنظمة والقوانين في حياتنا، وحشد جميع الكوادر العلمية والفكرية التقدمية والشعبية، بالإضافة إلى المنظمات والأحزاب المختلفة، ليتم تشكيل الوحدة الوطنية الحقيقية، ومشاركة الجميع في بناء الدولة، فكانت خطوة جادة يحتذى بها، وتم تشكيل مجلس الشعب الذي يضم ممثّلين عن الأحزاب والمنظمات الشعبية والمهنية، والقوى والعناصر التقدمية بهدف ممارسة التشريع، ووضع دستور للبلاد، وكان صدور قانون الإدارة المحلية نواة هامة للبدء بتحويل المسؤولية إلى أيدي جماهير الشعب لتمارس بنفسها إدارة شؤونها من خلال الوحدات الإدارية، وعلى كل المستويات الاقتصادية، والخدمية، والثقافية، وذكر القائد المؤسس حافظ الأسد في أحد أقواله: “وطننا وطن منيع، وشعبنا شعب عظيم قادر على مجابهة التحديات، والتغلب عليها مستنداً إلى هذه الوحدة الوطنية الراسخة التي تجلّت بأبهى مظاهرها”، وتم تحقيق الكثير من الإنجازات الوطنية في مختلف المجالات الاقتصادية، والعلمية، والثقافية، والاجتماعية، والعسكرية، وكان الأهم الحفاظ على كرامة وسيادة الوطن.
نقابات وروابط
استطاعت الحركة التصحيحية أن تكون نقطة انطلاق للعديد من الإنجازات الوطنية، والوصول إلى جميع الجماهير، فكان الفلاح والعامل من الأولويات، وتم السعي لتحقيق بيئة مناسبة للعمل بعيداً عن ممارسات المحتكرين من اقطاع وبرجوازيين، فكان الاتحاد العام للفلاحين الذي لاقى التحفيز والدعم من القيادة الحزبية، ما جعله أداة حقيقية لدعم الريف والفلاح، والعمل على نشر التوعية عبر نقابات الفلاحين، والروابط التابعة لها، وبالمسار نفسه كان الاهتمام بالعمال عبر النقابات العمالية التي تسعى لإنصاف العامل، وإعطائه جميع الحقوق من طبابة، وتأمينات اجتماعية، وغيرهما، ومازلنا إلى الآن ننعم بما تم تحقيقه في تلك المرحلة التي خلقت المساواة بين الجميع، وألغت مظاهر التفاوت الطبقي بين شرائح المجتمع، وعندما نتحدث عن الريف لا يمكننا تجاهل واقع المرأة في تلك المرحلة التي شهدت نقلة هامة طورت واقعها وظروف معيشتها، وحوّلتها إلى إنسان فاعل في المجتمع لها جميع الحقوق والواجبات من التعلّم، والعمل، والمشاركة في الحياة السياسية، والثقافية، والاجتماعية، وبالرغم من أن المرأة السورية تملك جميع تلك الحقوق وتنعم بها من قبل، إلا أن الحركة التصحيحية فعلت هذا الأمر بجميع أنحاء القطر، وحوّلته من امتياز يتعلق بعدد قليل إلى حالة اجتماعية منتشرة في جميع أنحاء القطر، وخاصة في الأرياف، حيث حظيت المرأة بالدعم المادي والمعنوي، والتوعية الكافية لتبني ذاتها وشخصيتها.
فترة ذهبية
كانت فترة بناء شيّدت المعامل، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، وتحوّلت إلى نهضة حقيقية شارك الجميع بها، وأكثر الامتيازات التي نالها المواطن في تلك المرحلة هي فتح الأبواب أمام الجميع للتعلّم والعمل، فمجانية التعليم سمحت لأبناء الوطن بتحقيق أحلامهم وطموحاتهم، وصولاً إلى المرحلة الجامعية، ومجانية الطبابة طالت جميع الفئات، فقد عملت المشافي في تلك المرحلة على استقبال أي مواطن، وتقديم جميع الخدمات له مهما كان نوعها، وهذا لم يقلل أبداً من أهمية ومستوى الخدمات المقدمة، بل استطاعت المستشفيات الحكومية أن تحظى بسمعة طيبة، وثقة المواطن في أدائها وعملها وميزة خدماتها، بل تفوقت على المشافي الخاصة، وكانت أكثر أهمية.
بناء سياسي
لم تمنع حركة البناء الداخلي في سورية من وضع ركائز أساسية في علاقاتها الخارجية، ووضع سورية كمحرك ولاعب أساسي في المنطقة، حيث شكّلت الحركة التصحيحية أساساتها الفكرية والعقائدية لمواجهة التحديات الاستعمارية الخارجية للمحافظة على وحدة وقوة سورية، وذلك من خلال بناء علاقاتها مع الدول العربية، والوقوف بجانب حركات التحرر ضد الاستعمار بكافة أشكاله، وكانت فلسطين هي الأولوية، وتم اتخاذ قرارات هامة للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني أمام جميع المحافل الدولية والعالمية، ومازالت إلى الآن تدفع سورية ثمن مواقفها السياسية والعسكرية في دفاعها عن حقوق الشعوب في نيل سيادتها واستقلالها، فكان من أهم أولويات الحركة التصحيحية التخطيط لإزالة آثار نكسة حزيران عام 1967 لاستعادة كرامة الأمة التي تجسّدت بشكل علمي وعملي من خلال الانتصار الكبير في حرب تشرين التحريرية التي قهرت الجيش الصهيوني الذي لا يقهر في أول حرب عربية صهيونية حقيقية في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وكانت تتويجاً للمرحلة الانتقالية من عمر التصحيح المجيد، وقد جاءت آثار هذه الحرب ونتائجها بالغة الأهمية على الصعيد القومي والعربي، والعسكري والدولي، وقد ركّز القائد المؤسس حافظ الأسد على أهمية قومية المعركة، وقومية النصر، ومازالت سورية تحتضن المقاومة، وتدعم صمودها في مواجهة الاحتلال الصهيوأمريكي لتحقيق استقلالها الكامل.
استمرار النهج
رغم تعرّض سورية لحرب كونية لزعزعة مواقفها ولي ذراعها، إلا أنها مازالت تحافظ على ثوابتها القومية والوطنية، وتقف إلى جانب الأحزاب والقوى التحررية ضد الفكر الاستعماري، لقد ساهمت الحركة التصحيحية ومنجزاتها في بناء دولة قوية استطاعت أن تقف في وجه أشرس حرب تعرّضت لها، وسمح هذا البناء القوي لسورية أن تحافظ على استقلالها وكرامتها، والتمسك بنهجها ومبادئها، ومازالت إلى الآن لاعباً أساسياً في المنطقة، حيث غيّرت موازين القوى، وألغت مبدأ القطب الواحد، وأعادت العديد من الدول العالمية إلى دورها السياسي، والوقوف أمام هيمنة أمريكا التي تفردت بقراراتها وغطرستها على الكثير من الدول النامية وغيرها.
ميادة حسن