ثقافةصحيفة البعث

“قبل أن أنسى” في مهرجان الأفلام البرازيلية

“الجروح المفتوحة مفيدة للفنّ” جملة قالها الموسيقي أستاذ باولو بالعزف على البيانو في الفيلم البرازيلي “قبل أن أنسى” الذي عُرض في دار الأوبرا ضمن مهرجان الأفلام البرازيلية الثاني، الذي أُقيم بالتعاون بين وزارة الثقافة وسفارة البرازيل في دمشق والمؤسسة العامة للسينما، وفي الفيلم يقف القدر حائلاً في وجه الإبداع أحياناً للرضوخ إلى الواجب والارتباط العائلي، ويطرح تساؤلاً إلى أيّ مدى يستطيع الإنسان تغيير المحيط حوله؟ وهل يمكن استعادة ما خسرناه من مشاعر؟

ورغم أن المخرج اعتمد على السينما الواقعية بالتصوير بالأماكن القليلة المرتبطة بالحدث، إلا أنه وظّف الفنون لتتغلغل بالحدث الدرامي وتمنح الواقعية مصداقية مبهرة، لاسيما بالمشاهد التي اكتفى بها بالعزف على البيانو والإضاءة الخافتة، لتلتقي بمشاهد ارتبطت بالموسيقا الإيقاعية الصاخبة وموسيقا رقصة السامبا.

يمثل القاضي المتقاعد بوليدورو الشخصية الرئيسة بالفيلم ليكون بوابة دخول إلى عوالم المسنين والتطرق إلى واقعهم، وكيف يمضون أوقاتهم بين أسوار الماضي والحاضر دون أمل جديد، حينما يقرر إجراء تغيير جذري بحياته الرتيبة ليس فقط من أجل التغيير وإنما لسر يخفيه تكشف عنه الأحداث، فيقرر أن يشتري ملهى يعتمد على عروض التعري ويدعو أصدقاءَه المسنين، الذين يشاركون بالتغيير دون أن يعرفوا باعتراضهم على الموسيقا الإلكترونية ومطالبتهم بموسيقا مباشرة أكثر واقعية.

التغيير الفعلي يبدأ لحظة وصول ابنه باولو الذي يعمل مع الأوركسترا بالعزف على آلة إيقاعية، ويتنقل معهم متناسياً حلمه بأن يصبح عازف بيانو لعدم تمكنه من التدريب وعدم حصوله على فرصة للدخول إلى ملهى”بيبي دانس” وقبوله عرض والده بالعمل معه والعزف على البيانو وتحقيق حلمه بالدخول للمسابقة لاختيار عازفين. تدخل الأحداث بيما المراقبة التي يتم تعيينها من قبل الجهة القضائية لكتابة تقرير يوضح القدرات العقلية للقاضي بعد أن شكّت ابنته بياتريز بتراجعها لشرائه الملهى، فرفعت الأمر إلى القضاء، ليكون لبيما أيضاً دور بالتأثر بالتغيير الذاتي والعاطفي لإغراقها بعالم العمل الجاد مستبعدة الجوانب الأنثوية في حياتها، لتكتشف فجأة أنها بعيدة عن كل الجماليات التي يحتاج إليها الإنسان.

وينجح باولو مع أستاذه بالتغيير الفعلي للملهى “بيبي دانس” فبدلاً من الموسيقا الإلكترونية يعزف باولو موسيقا الأغنيات الراقية الرومانسية متمثلاً تعاليم أستاذه بنسيان النوتة الموسيقية والعزف مما يحفظه بإحساسه، وفي الوقت ذاته استُبدلت عروض التعري بالرقص التعبيري الإيحائي المعبّر، ليطال التغيير أيضاً الإفصاح عن جروح الماضي وعن البعد العاطفي بين الأب والابن وعدم إيمان الأب بموهبة ابنه وتفرق العائلة بعد موت الأم “روث” التي كانت تشجع ابنها وتحثّه على تحقيق حلمه.

موسيقا البيانو أثارت أشجان باولو وحرمانه من احتواء والده إلا أنها في الوقت ذاته كانت لحن تقارب بينهما يتفجر حينما يكتشف باولو أن والده مصاب بالزهايمر بعودته إلى الزمن الماضي الذي عاشه بالحرب العالمية الثانية أثناء خدمته بالجيش، ليتغير المسار الدرامي للفيلم بالتركيز على ملامح الزهايمر على الأب بخروجه من المنزل بشكل غير لائق، بضياعه والبحث عنه، بتخيله حالة من الماضي، وصولاً إلى الحدث الفاصل وقرار باولو بالاستمرار بانتظار دوره بالمسابقة أو بالبحث عن والده؟ فيركز المخرج على وقع اللحظة الفاصلة بين الحلم والواقع ورغم محاولات الأستاذ بإبعاد باولو عن الهاتف حينما يرن لا ينجح، فيهرع باولو راكضاً باحثاً عن والده ليجده على شاطئ البحر.

وبخط درامي آخر يتطرق المخرج إلى فكرة شجاعة هي المواجهة في المشهد الأخير في قاعة المحكمة، حينما يوشك القاضي بإصدار حكم لمصلحة بوليدورو، إلا أنه يعترف بصراحة بأنه مصاب بالزهايمر ويوافق على وصاية ابنه باولو الذي تخلى عن إبداعه وحلمه من أجل حبّ وجداني أكبر.

دمج الفيلم بين القسوة والحب والحزن والفرح قرابة ساعتين، وشارك بمهرجانات عالمية في أمريكا وفرنسا وأستراليا وجنوب إفريقيا وغيرها، أُنتج عام 2018. وكان أحد أفلام المهرجان مع نساء مضطربات ومالاسارتس الرائع ونزاعه مع الموت، وفندق كامبردج سابقاً وفيلم الافتتاح حبي.

ملده شويكاني