ليس على ما يرام التسويق الزراعي.. بطء في عجلة القرار الاقتصادي واصطياد تجاري لتعب الفلاح
أعوام مضت والمشكلة التسويقية للمنتجات الزراعية لاتزال تراوح مكانها، وعلى الرغم من الورشات الكثيرة، واللجان العديدة التي شكّلت لمحاولة تحسين واقع التسويق الزراعي، إلا أن الملموس على أرض الواقع يثبت العكس دائماً، ففي كل موسم زراعي يقف الفلاح الخاسر الأكبر في العملية الإنتاجية مكتوف اليدين أمام محصوله الزراعي الذي يبقى في أغلب الأحيان قيد انتظار الجهات المسؤولة عن تسويقه، والتي تتخذ في أغلب الأحيان أيضاً التدابير المعتادة ذاتها في كل موسم، ما يطرح جملة من التساؤلات أهمها: من يتحمّل مسؤولية خلل العملية التسويقية؟ وكيف يمكن تحقيق العدالة التسويقية بين الفلاح والتاجر والمواطن؟.
لا دور
مجموعة من التساؤلات حملناها معنا إلى وزارة الزراعة علّنا نجد إجابات واضحة لها، حيث كانت البداية من مكتب أحمد دياب مدير الاقتصاد الزراعي والاستثمار في الوزارة الذي أكد لنا أن تسويق المنتج الزراعي ليس من اختصاص الوزارة، وأن مديرية التسويق في الوزارة كانت تعمل، قبل أن يتم استبدالها بمديرية الاقتصاد الزراعي، على المساهمة بتسويق المنتج الزراعي من خلال مشاركتها في المعارض الخارجية التي تحوي قطاعاًَ زراعياً، أو تلك التي تتداخل مع القطاعات الزراعية التي يمكن أن تساهم بترويج وتسويق المنتج الزراعي، إذ لم يكن لها دور تسويقي لعدم وجود مؤسسات تسويقية إنتاجية قبل اليوم كالسورية للتجارة، وغيرها، لذا انحصر دورها في المساهمة، ودعم التسويق الزراعي من خلال تزويد المؤسسات التجارية أو التسويقية بالبيانات المطلوبة ككمية الإنتاج الزراعي، والكميات المتاحة للتصدير، وأصناف وأنواع المنتجات، وأن الدور الأساسي لوزارة الزراعة في عملية تسويق المنتجات الزراعية الرئيسية تمثّل بتهيئة الأرضية المناسبة، والسعي مع الجهات المعنية بتسويق المنتجات الزراعية من وزارات وهيئات واتحادات، والتواصل مع كافة هذه الجهات لتسويق تلك المنتجات محلياً وعالمياً بعد تأمين احتياجات الأسواق المحلية، مشيراً إلى أن عملية التسويق الزراعي عبارة عن أربع حلقات تبدأ بالمزرعة، مروراً بمراكز الفرز، وانتهاء بشركات التصدير، وتعنى وزارة الزراعة بحلقة المزارع المتمثّلة بالمنتج الزراعي من خلال تأمين البذرة، وتحديد حاجة القطر من الأسمدة والمبيدات، والترخيص لمعامل الأسمدة والمبيدات، كذلك الحجر الصحي الزراعي والبيطري لمنع دخول أية آفة أو جائحة مرضية، وتحرص الوزارة على أن تكون كامل المنتجات الزراعية، خاصة التصديرية التي تدخل الأسواق الدولية، منافسة وتتمتع بميزات نسبية من ناحية المواصفات أو السعر التصديري بحيث يحقق نسبة اختراق سوق كبيرة، وينافس بقوة، أما العملية التسويقية فهي عملية تشاركية ينتهي دور وزارة الزراعة فيها على باب المزرعة.
عملية التصنيع
بدوره أكد محمد كشتو رئيس اتحاد غرف الزراعة أن المحاصيل الزراعية تنقسم إلى محاصيل استراتيجية: “قطن- قمح- شوندر”، لا تعاني من مشاكل تسويقية، ومحاصيل رئيسية منها يسوّق مجففاً، ومنها يسوّق طازجاً، ومنها يسوّق مصنعاً، وتكمن المشكلة بتسويق المحاصيل الطازجة كالحمضيات التي نملك منها كميات إنتاج أكبر من احتياجنا، وللأسف لاتزال بعض حدودنا نتيجة الحرب على سورية مغلقة، وبالتالي لا يمكن تصدير الفائض والسوق الداخلية لا تستوعب الإنتاج كاملاً، كذلك فإن القوة الشرائية للمواطن ضعيفة نتيجة مفرزات الحرب علينا، والمشكلة الأكبر أننا نرسم خططنا على الإنتاج دون وضع خطط للتسويق، مشيراً إلى وجوب وضع السياسة التسويقية قبل البدء بالإنتاج، وأن ننتج المسوق لا أن نسوق المنتج، والمطلوب اليوم أن تكون هناك عملية تصنيع للمحصول بشكل أكبر، وفي هذا العام وافقت الحكومة على تخفيض بدلات المرفأ على الصادرات من المنتجات الزراعية بنسبة 75%، كذلك بدأت الحكومة العمل على برنامج الاعتمادية “الحمضيات” من خلال استهداف المزارع التي تزيد مساحتها عن 25 دونماً فقط، على أن يتم تشميل كل المساحات الأخرى في المرحلة القادمة، حيث تم اختيار نحو 250 مزرعة قادرة على إحداث نقلة نوعية في موضوع التسويق الخارجي للحمضيات، لكن النتائج لن تحصد بشكل سريع وآني.
عدالة تسويقية
بعد اعتذار السورية للتجارة عن الإجابة عن تساؤلاتنا المتعلقة بالتسويق الزراعي، والتي رأت بضرورة عرض أسئلتنا على اللجنة الاقتصادية، أو على خبراء في الوسط الزراعي، وجهنا الأسئلة إلى عبد الرحمن قرنفلة “المستشار الفني لغرف الزراعة” الذي أكد لنا أن العدالة التسويقية هي تحقيق سعر عادل لكافة أطراف المعادلة: (منتج، حافلات النقل والتسويق، المستهلك)، لذا لابد في البداية من معرفة مكونات سعر كل سلعة من السلع، حيث تشكّل تكاليف الإنتاج نقطة البداية، وهي مؤلفة من حلقات متعددة تبدأ بالنسبة للإنتاج الزراعي بتكاليف تحضير الأرض للزراعة، وتكاليف البذار أو الشتول، وزراعتها، ثم تكاليف العمليات الزراعية المختلفة من ري، وسماد، ومبيدات، وأعمال تالية حتى تكاليف الجني أو الحصاد، وتكاليف التعبئة والتغليف، وفي بعض الحالات تضاف تكاليف الفرز والتوضيب، وهنا تكون تكاليف الإنتاج عند باب المزرعة، ثم تكاليف النقل من الحقل أو المزرعة إلى الأسواق، ثم تبدأ تكاليف التسويق بدءاً من تكاليف التحميل والنقل من باب المزرعة إلى الأسواق، حيث تضاف عليها أرباح الحلقات التسويقية: (تاجر جملة، وتاجر مفرق، والبائع المباشر للمستهلك)، والجدير ذكره أن بعض التكاليف قد تضاف أثناء عمليات النقل والتسويق التي تنتج عن عدم اتباع الطرق الفنية في التحميل والنقل والتنزيل والخزن المؤقت، وما ينجم عنها من هدر بالسلعة يتم تحميل قيمته على المنتج، ومن الطبيعي أن تضاف إلى تكاليف الإنتاج والنقل والتسويق أرباح المنتج والتاجر، وبدل أتعاب التسويق للتاجر، وتاجر المفرق، والبائع المباشر للمستهلك، وبذلك يتشكّل السعر المعتمد للمستهلك، لذا فإن تحقيق العدالة التسويقية، وتحقيق سعر عادل لكل المعنيين يقتضيان خفض تكاليف الإنتاج، وخفض نسب الهدر أثناء عمليات الجني والتوضيب والتحميل والنقل والتنزيل والتسويق، وخفض نسب عمولات التسويق لكل من تاجر الجملة، وتاجر المفرق، والبائع المباشر للمستهلك، والجدير ذكره أن البائع المباشر للمستهلك يحصد أعلى نسبة من الربح التي قد تتراوح بين 50-100% من سعر سوق الهال، أو سوق الجملة.
فوضى أسواق
وفيما يخص أسباب العلاقة غير المتوازنة بين الفلاح والمواطن، على الرغم من أنهما الحلقة الأضعف في العملية التسويقية، أكد قرنفلة أنه لا توجد علاقة مباشرة بين المنتج والمستهلك إلا في حالات نادرة جداً تتعلق بعمليات البيع المباشر من المنتج إلى المستهلك، وإذا كان المقصود بعدم التوازن أن كلاً منهما لا يحصل على سعر منطقي للسلعة، فإن ذلك يعود لأسباب متشابكة، مشيراً إلى وجود عدة نقاط ضعف في العملية التسويقية أهمها: غياب المعلومات التسويقية، وعدم معرفة المنتج بأسعار الأسواق الداخلية والخارجية، واضطراب العملية الإنتاجية، ما يؤدي لفوائض إنتاج في بعض الحالات، وانحسار توفر المادة في السوق في حالات باقية، وارتفاع نسب الفاقد والهدر أثناء عمليات الجمع والجني والحصاد والفرز والتوضيب والنقل والتسويق لغياب تعليمات فنية تحكم هذه النقاط جميعها، إضافة إلى عدم وجود جمعيات أهلية تعنى بالجودة، وتضع أسساً منطقية للعمليات الزراعية، وعمليات الجني والحصاد، والعمليات التسويقية المختلفة، والفوضى في أسواق الهال، وعدم معرفة حجم الداخل والخارج من السلع والمنتجات الزراعية إليها، وعدم وجود جهة تتابع أسعار السوق يوماً بيوم، وغياب المعلومات الإحصائية حول حجم الطلب في الأسواق لكل سلعة وتطوراتها، وكذلك حجم الطلب الخارجي المتوقع يساهم في حدوث اضطرابات واسعة في منحنيات الإنتاج والتسويق كاملة، وأشار قرنفلة إلى أن تطوير العملية التسويقية يتطلب عقد ندوات علمية وفنية يشارك فيها الفلاحون المنتجون، وأصحاب مشاغل الفرز والتوضيب، وأصحاب سيارات الشحن، وتجار سوق الهال، وتجار المفرق، وباعة المستهلك، وذلك على مستوى كل منطقة ومحافظة، ثم عقد ندوة مركزية على مستوى القطر تضم ممثّلين عن تلك الجهات، إضافة إلى الجهات الحكومية المعنية، وجمعيات حماية المستهلك.
تشاركية
بدوره أكد محمد الشبعاني، (عضو اتحاد غرف الزراعة)، أن عقبات التسويق الزراعي في سورية بالجملة، والحلول منذ عشرات السنين بالانتظار، فالمشكلة الأهم في العملية التسويقية، برأي الشبعاني، تكمن في عدم دراسة السوق الخارجية المستهدفة، والسوق المحلية أيضاً، إذ إننا مازلنا نتبع سياسة تسويق الفائض من أي محصول دون وجود دراسات وخطط تسبق عملية زرع المحصول المخطط لتصديره، فالمنتج السوري يجب أن يتمتع بمواصفات فنية ونوعية توافق عليها الدول الأوروبية المصدر لها التي تضع اليوم شروطاً معقدة لاستيراد المنتجات الزراعية من حيث المواصفات المطلوبة: “النوع- الحجم- الآثار المتبقية من المبيدات”، ومن الضروري اليوم بعد انتهاء سنوات الأزمة العمل على وضع حلول فورية لإنعاش التسويق الزراعي من خلال البدء بزراعات تصديرية، والاعتناء بالمنتج الذي تنوي الحكومة تصديره، واتباع نظام تعقّب للعملية الزراعية بدءاً من عملية زرع البذرة، مروراً بدراسة السوق المصدر لها من خلال تشكيل لجان متخصصة لحضور معارض في تلك الدول، ومعرفة الأنواع المطلوبة والمرغوب بها، ودراسة متطلبات الأسواق هناك، كذلك يجب خلق حلقة مستمرة بين وزارة الزراعة، والاقتصاد، والقطاع الخاص، واتحاد غرف الزراعة، فالعملية التسويقية عملية تشاركية بين القطاع العام والخاص، مشيراً إلى أن فرق سعر الصرف يؤثر على التسويق الزراعي بشكل كبير، وانتقد الشبعاني السياسات الحكومية السابقة في عملية التسويق الزراعي التي كانت ترتكز على الكم لا على النوع، ناهيك عن زراعة الحقل بعدة أنواع زراعية، وهذا أمر خاطىء، كذلك زراعة حمضيات غير عصيرية، متسائلاً عن غياب دور الرقابة على التجار، والتدخل السلبي للتاجر في العملية التسويقية، لذا من الضروري كسر حلقة الوسيط “التاجر” الذي يبيع المنتج الزراعي بأسعار خيالية، وبعيدة كل البعد عن السعر الذي اشتراه من الفلاح، ليبقى الفلاح الحلقة الأضعف في العملية التسويقية، والذي للأسف تخلى قسم كبير من الفلاحين عن العمل الزراعي بعد خيبات الأمل الكبيرة والكثيرة التي لاحقتهم بسبب ظلمهم في العملية التسويقية، وأكد الشبعاني على ضرورة اتباع نظام الزراعة العضوية، وتطعيم أصناف بعض الأنواع الزراعية لتلائم السوق الموجّه لها، وأن تأخذ الدولة إجراءات حازمة في مراقبة الصادرات، وعدم تصدير أي منتج إلا ضمن المواصفات والمقاييس، ومتطلبات الأسواق الخارجية.
ميس بركات