أيّهذا الشاكي (4)
د. نضال الصالح
لم يكد مجد ينتبه إلى أنه لم ينتعل حذاءه وهو يغادر الغرفة، حتى أحكم الأستاذ بقبضته على كفّه في إيماءة منه أنّ عليه أن يتابع سيره معه مهما يكن من أمر تلك الحجارة التي بدت رؤوسها لمجد أشبه بأنياب تلك الذئاب التي اقتحمت الحيّ الذي كان يسكنه قبل نحو ثماني سنوات، والتي كانت تثخن هدأة الفجر بالتكبيرات الزيف، وأنياب تلك الأخرى التي كانت تلوّث هواء القاعة الكبيرة بالكلام الزيف.
تكبيرات زيف باسم السماء، وكلام زيف باسم الأرض، وبينهما كانت رئتا مجد تعاندان طيش الهواء الفاسد الذي يزداد صخباً شأن الذئاب نفسها التي لم يكن يعنيها من أمر السماء سوى الحوريات، وتلك التي لم يكن يعنيها من أمر الأرض سوى ما يثمّر أرصدتها من النهب والنهش والحضور الخُلّب وأكل لحم الآخر نيئاً، وبينهما أيضاً كانت يد الأستاذ تزداد تمسكاً بيد مجد، كما لو أنها يد أم وهي تشدّ على يد طفلها الصغير في الزحام، وبينهما كان رأس مجد مرهقاً بعشرات الصور عن أولئك الذين تربّصوا به منذ أول تفوّق له في حياته، والذين يشبهون البشر في هيئاتهم فحسب، ثم منذ نحو ثماني سنوات لأنّه اختار الانحياز إلى الضوء عندما ازدحمت الأرض بالظلام، ولم يتوقف سيل الصور تلك عن هديره في رأسه إلا عندما فاجأه الأستاذ بالقول: “الأقوياء لا يؤذون، الضعفاء وحدهم يفعلون ذلك”، ثمّ أتبع العبارة بأخرى: “الضعفاء هم الجبناء عادة”، وبثالثة: “وكانت العرب قالت: الجبان حتفه من فوقه، وعصا الجبان أطولُ منه”، وبرابعة: “والخطْبُ اجتماع الجبن مع الجهل”، وردّد فيما يشبه الغناء: “قلتُ: ابتسم، ما دام بينك والردى/ شبرٌ، فإنّك بعدُ لن تتبسما”.
وما إنْ بلغ مجد وأستاذه منتصف الأرض القفر التي تتزاحم فيها تلك الحجارة المتآكلة من جهاتها جميعاً سوى رؤوسها المدببة كحراب حادة، وما إنْ أومأ الأستاذ لتلميذه بالتوقّف، ثمّ بالنظر إلى شجيرة صغيرة نبتت أمامهما، ولم تكن قبل أن يبلغا المكان، حتى خُيّل لمجد أنّه لمّا يزل ممسوساً بوطأة تلك الصور التي كانت تتزاحم في رأسه، صور الذئاب وهي تطلق التكبيرات الزيف، والأخرى التي تلغو بالكلام الزيف، ولذلك فهو يرى ما رأى، الشجيرة التي لم تكن وسط ذلك القفر، بل التي لم تكن قطّ، والتي سرعان ما أخذت تتباسق مقاومة هوج الحجارة حولها، ثم تكبر حتى تظلّهما معاً. آنذاك بزغت شمس ابتسامة فارعة بين شفتيّ الأستاذ، ورمق مجداً بنظرة لم تكن تعني سوى شيء واحد هو ما كان صاحب البديعة، أبو ماضي، قصد إليه في قوله: “فاضحك، فإنّ الشهب تضحك والدجى/ متلاطمٌ، ولذا نحبّ الأنجما”، وبينما هما، الأستاذ ومجد، يبتردان بفيء الشجرة، كانت السماء تستعيد صحوها الذي كان مرهقاً بغيم مخاتل، وكانت الحجارة تتطامن، ثم تتضاءل، ثمّ تصير حصى، فغباراً، ثم كأن لم تكن.