“حموضة معدة”.. أحدث إبداعات الأدب الساخر
يمتاز الأدب الساخر بالبلاغة نسبة إلى بقية الأساليب الأدبية، حيث يعتمد على التقاطات معبرة ومفارقات خاطفة مباغتة بعيداً عن الإسهاب والإطالة، كما هي رسومات الكاريكاتير، وهو أقرب إلى روح الحداثة فمعظم ماخطه الأدباء حول العالم بهذا الأسلوب جاء الحدث فيه والشخصيات ابنة عصرها، وكذلك هو الحال في المجموعة القصصية (حموضة معدة) باكورة الإبداعات القصصية للدكتور محمد عامر مارديني وزير التعليم العالي ورئيس جامعة دمشق الأسبق، وهي من أحدث مؤلفات الأدب الساخر السورية.
اتسمت القصص بالطابع الحميمي فهي مشبعة بأماكن نعرفها وأحداثها من حياتنا اليومية، وتَشفُّ عن تعلق القاص بسورية المكان والإنسان، حد أن بعض عناوين قصصه حملت أسماء شخصيات مثل: “أبو حسين، أم سميح، أبو حديد” وجاء العديد من العناوين أقرب إلى عناوين حلقات في مسلسل كوميدي منها إلى عناوين لنصوص أدبية: “طرفة حماتي، قبقاب الحارة، أنفلونزا الحمير.. الخ”. تناولت المجموعة موضوعات متنوعة مما جعلها مؤلفا أدبياً ثرياً من حيث التقاطاته وطرحه الفكري ومنها على سبيل المثال: الطبقية– النفاق الاجتماعي- وتناول في قصته “عوربة على وزن عولمة” مايتعرض له شبابنا وسط التدفق التكنولوجي، استخدام العنف في التعليم، كما في القصة التي حملت عنوان (عريف الصف) ونقتطف منها:
(بعد “فلقة” أستاذي وكان اسمه كف الغزال عدت إلى المنزل مكلوماً، دامع العينين، مهيض الجناح، مجروح القلب، حزيناً من غدر رفيق الصف، ليستقبلني والدي “أبو مازن” عند الباب ضاحكا، مرحبا بقدومي، دون أي اكتراث لحالتي النفسية المحطمة، حاملاً قلم رصاص بني اللون، استعداداً لتلقيني وتحفيظي أبيات أمير الشعراء: قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا/ مشت على الرسم أحداث وأزمان.. إلى آخر الأبيات. كان أبي يستخدم طريقة غوانتنامية للتحفيظ، وهي أن يضع عند بدء عملية التحفيظ قلم رصاص بين أصابع الولد المستهدف، ثم يقبض عليها بهدوء، وبمعظم كفه، ثم يبدأ بعد ذلك بالسؤال قائلا مثلا: “سبعة في تسعة”، وفجأة ، وقبل أن يبدأ الرأس في عملية الحساب، ومن دون أن ينتظر أي إجابة صحيحة كانت أم خاطئة، يضغط بشدة على الأصابع المتشابكة مع قلم الرصاص، فيشهق التلميذ المسؤول من شدة الألم.) ومن اللافت استخدم مفردات واشتقاقات ونحو لكلمات ومسميات ليست ابنة بيئتنا “أبي كان يستخدم طريقة غوانتنامية/ اجتياحا هولاكيا يزلزل مزاجهم/ واهاملتاه/ فتحة السقف المُسلكنة/ ينسون برستيجهم/ المُستخلج.. الخ”.
اتبع القاص أسلوب (الراوي الشخصية) ولكنه استطاع بحرفية عالية جعل هذه الشخصية لاتروي القصة مندفعة بانفعالاتها النفسية كونها في خضم الحدث ووهج الاحتكاك بالآخر، فجاء الراوي حساساً متفاعلاً متأثراً وموضوعياً في الوقت ذاته، تأتي ردوده على التناقضات التي تباغته على هيئة مونولوجات في معظم الأحيان. ولم يصدر الكاتب عبر الراوي أحكام قيمة على الأحداث والشخصيات التي كتبت القصص بهدف استنكارها أو انتقادها، بل كان يخرج شخصياته عن ثنائية الخير والشر ويظهرها ضحية لهالة تكتنف المجتمع من العادات والتقاليد البالية، وكان يوجه بذكاء عاطفة القارئ ضد هذه الهالة، حيث يترك للقارئ أن يستقرئ ويتفكر في المواقف التي تتعرض لها الشخصية المحورية في القصة، والتي جاءت كإنسان مثقف موضوعي مما جعل قصصه أقرب إلى عتبات تأملية نطل منها على واقعنا بجل تفاصيله وتناقضاته وماتكتنزه هذه التفاصيل والتناقضات من إشارات كاشفة لعيوبنا السيكولوجية والسوسيولوجية ودائرة التغذية الراجعة فيما بينها، واستطاع تصوير المكان ومظهر شخصياته وملامحها النفسية وتحولاتها عبر الاهتمام برسم أدق التفاصيل لسلوك وتفاعلات شخصيات قصصه الكاشفة لبنيتها النفسية وذهنيتها.
سامر منصور