“شرعنة الاستيطان”.. ترامب بائـــع بالمفــرّق
في توقيت لا علاقة له إلا بتقديم الدعم لنتنياهو في اللحظات الأخيرة من المنافسة على منصب رئيس الوزراء، والدفع المباشر بإعادة تكليفه بتشكيل الحكومة، علاوة على حرف أنظار الناخبين الأمريكيين بعيداً نحو الخارج، ومحاولة امتصاص الضغوط الداخلية وتوليد ردّ فعل إيجابي لدى جمهور الناخبين بعد التطوّرات المحلية التي أضرت بصورة ترامب، وأطلقت سلسلة إجراءات من شأنها عزله وتقديمه للمحاكمة، أعلن وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو “إن بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية لا يخالف القانون الدولي، وإن اعتبار إقامة هذه المستوطنات أمراً غير متّسق مع القانون الدولي لم يحقق تقدماً على مسار قضية السلام، وأن الإدارة الأمريكية تعترف بالواقع على الأرض، وهي السياسة الأمريكية الجديدة التي سوف تتيح مساحة أفضل للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين” – على حد قوله.
وعلى الرغم من أن هذه الخطوة ليست الأولى من نوعها، وأن قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، ومن ثم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، وشطب تعبير “الأراضي المحتلة” من قاموس وزارة الخارجية الأمريكية، وقبل ذلك وبعده الترويج لما سمي “صفقة القرن”، شكّلت مجتمعة هدايا “ثمينة” قد لا تقل أهمية لـ”إسرائيل” خلال ولاية ترامب الأولى، خاصة مع وجود السفير ديفيد فريدمان في القدس المحتلة، والذي تعتبر هذه القرارات ترجمة حرفية لأفكاره العنصرية والتلمودية والكارهة للعرب، إلا أن خطورة القرار الجديد تكمن في أنه يمثّل مبادرة تأسيسية لبدء العمل على الأرض بـ “صفقة القرن”، وتكريس بنودها كـ “أمر واقع” دون انتظار أي موافقة، أو حتى التشاور مع أصحاب العلاقة، وذلك في سباق واضح مع الزمن لحسم قضايا جوهرية قبل الإعلان الرسمي – الذي تأجّل مرات عديدة – عن “الصفقة” التي ستحقق، في وقت واحد، أحلام الإنجيليين الأمريكيين، قاعدة ترامب الانتخابية، وتصحّح “ظلماً تاريخياً” بتحقيق الوعد الإلهي ببعث “الشعب اليهودي في أرض إسرائيل”، كما يدّعون، وكما يرى اليمين الإسرائيلي الداعم لنتنياهو، والمحرّك الأساس لدعم ترامب في الأوساط الجمهورية خاصة.
ولكن من الواضح، هنا، أن الرهانات الأمريكية تبقى أكبر بكثير من التوقّعات العملية، إن لم نقل أنها تنطوي على مفاعيل عكسية، فقد تحوّلت السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الثلاث الأخيرة، على أقل تقدير، إلى سلسلة من “الصفقات” الخاسرة، أو المحكومة بالخسارة سلفاً، خاصة في الشرق الأوسط، حيث لم تتراجع الولايات المتحدة الأمريكية أمام تحدي إخضاع وتطويع خصومها في المنطقة، أو “تغيير سلوكهم” على الأقل، بل وخسرت قدرتها على ضبط الحلفاء والأصدقاء، الذين باتوا يفتشون عن توسيع مظلة الحماية الدولية. هنا، وإذ يشكل إعلان “قانونية المستوطنات” تحولاً جذرياً قد يدفع بالأمور قدماً على صعيد حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي – كما تحاول الإدارة الأمريكية خداع نفسها – فإنه لن يخرج عن حدود العلاقة الثنائية بين “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية – وعلى حساب الأخيرة حتماً – بل وسوف يعجّل بالانتهاء من الكثير من الأوهام التي عشعشت في أذهان دعاة الحوار والمفاوضات مع الاحتلال، بل والمراهنين على استعداد واشنطن، أو قدرتها، أو أهليتها حتى، للعب دور محايد – وليس بنّاء – في عملية التسوية السياسية، وهو ما شكل سنداً لفلسفة سياسية مستمرة منذ خمسين عاماً. قوامها أن أوراق الحل هي بنسبة 90% في أيدي الإدارة الأمريكية!
لا تغادر واشنطن موقعها كوسيط متوافق عليه، حتى الآن، بل هي تتحوّل إلى مؤجج للصراع قد يستحيل مع الزمن إلى عدو ينبغي مواجهته، أو ينتهي به المطاف إلى أن يتمّ لفظه قبل التوجّه إلى طرف، أو أطراف أخرى بديلة.. تتحوّل الولايات المتحدة إلى دولة مارقة تسرق الأرض والنفط والسيادة الوطنية، وتشكّل خطراً على السلم الإقليمي والدولي، وتهديداً للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم، من خلال التطاول على حقوق الشعوب والتعدي على الشرعية الدولية، وقبل كل شيء من خلال محدوديتها وقصر نظرها وغرقها في روح “التربّح” التي ستجعل من الأمريكان، وبالتدريج، باعة مفرق يتكسّبون على حساب الغضب الشعبي المتفجّر ضد الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم.
لم يعد هناك سياسة خارجية أمريكية.. ما هو قائم حالياً سجل مديد من حماقات قد يطول الزمن قبل أن ندرك أنها متأتية عن مقادير عالية من الجهل والغطرسة والاستخفاف وعدم القدرة على التواصل مع الآخر – أي عن عجز وتراجع – أم عن جرعات خطيرة من التكالب والعدوانية الشريرة التي يجب وقفها عند حدها مهما كانت موازين القوى!
المؤكّد أن ولايات ترامب المتحدة الأمريكية باتت عبئاً على الجميع، وأصبحت خطرة حتى على ذاتها!!
بسام هاشم