مذبحة قبية.. نموذج لسياسة التطهير العرقي الصهيونية
د. معن منيف سليمان
تعدّ مذبحة قبية نموذجاً سافراً لسياسة التطهير العرقي التي تنتهجها “إسرائيل” الهادفة إلى مطاردة الشعب الفلسطيني واقتلاعه، وعلامة بارزة في انتهاكها للقانون والأعراف الدولية، كما يشير القرار الأممي رقم /101/ الذي أصدره مجلس الأمن في يوم 24 تشرين الثاني عام 1953، والذي أدان “إسرائيل” بسبب مذبحة ارتكبتها في قرية قبية الفلسطينية. فالتطهير العرقي هو سياسة محدّدة جيداً لدى مجموعة معينة من الأشخاص تهدف إلى إزالة منهجية لمجموعة أخرى على أرض معينة، على أساس ديني أو عرقي، أو قومي، وتتضمن هذه السياسة العنف، وغالباً ما تكون مرتبطة بعمليات عسكرية، ويتمّ تنفيذها بكل الوسائل الممكنة، من التمييز إلى الإبادة، وتنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان، والقانون الدولي، وتشكّل أساليب التطهير العرقي، في معظمها، انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف عام 1949، وللبروتوكولات الإضافية لعام 1977، وقد أصبح التطهير العرقي حالياً مفهوماً معروفاً جيداً صار الآن يُعرّف أنه جريمة ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي.
إن عملية التطهير العرقي المتواصلة التي تنتهجها “إسرائيل”، جرى التخطيط لها بشكل مدروس وواعٍ من خلال شبكة مترابطة وتنظيم أوامر صريحة وواضحة تنطلق كلها من فلسفة الحركة الصهيونية وممارساتها المرتبطة ارتباطاً عضوياً بالرؤية والمخطط الرأسمالي العالمي كونه صاحب المصلحة الرئيسية في قيام ما يُسمّى “إسرائيل” في فلسطين، وبات من المؤكد أن مفهوم الترحيل أو طرد الفلسطينيين له جذور عميقة جداً في الفكر السياسي الصهيوني، فمن “تيودور هرتزل” مؤسّس الحركة الصهيونية إلى كبار المنظّرين الصهاينة كان تطهير الأرض من سكانها الأصليين عندهم خياراً شرعياً، وقد عبّر عن هذه الفكرة بوضوح أحد منظّري الصهاينة “ليو موتسكين” في عام 1917 حين قال: “إن فكرتنا في استعمار فلسطين يجب أن تسير في اتجاهين: استيطان يهودي في أرض فلسطين، وإعادة توطين عرب أرض إسرائيل في أراضٍ خارج البلد”.
ولا شك أن هذه الفكرة تنبع من واقع كون مرتكبي الطرد غزاة، وجزءاً من مشروع استعماري، وهذا ما يحيل حالة فلسطين إلى تاريخ التطهير العرقي الاستعماري في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وفي أفريقيا وأستراليا، حيث ارتكب المستوطنون البيض جرائم كهذه بشكل روتيني.
لقد بات واضحاً أن ما تقوم به القوات الإسرائيلية من ممارسات إجرامية وتدميرية ضد الفلسطينيين، إنما هدفه اجتثاث الشعب الفلسطيني واستئصاله، وإلغاؤه من كل معادلة سياسية وذلك من خلال الاغتيالات المتوالية والمخطط لها عن عمد وسبق إصرار، والاعتقالات اليومية دون حق أو قانون، ومداهمات البيوت والمساكن الفلسطينية ليل نهار وتحويلها إلى ثكنات، وما يتلو ذلك من قصف وتدمير ونسف المباني العامة، واجتياح الأراضي، وممارسة القتل الجماعي بدم بارد، حتى أصبحت ممارسة القتل الجماعي للفلسطينيين شريعة وعقيدة، وأضحت بالنسبة للقوات الإسرائيلية عمليات روتينية يومية تقترفها بأعصاب باردة وأمام الرأي العالمي، وهذا بالتحديد ما عبّر عنه المؤرخ العسكري الصهيوني “مارتن فان كريفيلد” حين قال: “إن القتل الجماعي ينبغي تنفيذه بسرعة وقوة بحيث تنتهي القضية قبل أن يفهم العالم ما يحدث”.
ويؤكد العديد من المؤرّخين العسكريين: إن عملية التهجير القسري للفلسطينيين قد تمّت بشكل مبرمج ومخطّط له بهدف تطهير فلسطين من سكانها العرب، وقد واكب عملية التهجير القسري حملات مكثفة من العنف والإرهاب والمجازر التي شكّلت إحدى أبرز الأسباب لهجرة عرب فلسطين قراهم ومدنهم، كما رافقت العمليات العسكرية سياسة الحرب النفسية من خلال تسريب أخبار المجازر على نطاق محلي لكي تصل أنباء القتل الجماعي والهدم إلى الفلسطينيين، وذلك لكي تزرع في نفوس السكان حالة من الهلع والذعر ليقوموا بإخلاء قراهم حفاظاً على أرواحهم ومتاعهم وأعراضهم.
وهذا ما حدث فعلاً في قبية، ففي منتصف شهر تشرين الأول عام 1953، أغار جنود الفرقة /101/ التابعة للجيش الإسرائيلي بقيادة الإرهابي “أرييل شارون” على قرية قبية التي تقع شمال مدينة القدس، وذلك بناء على أمر أصدرته حكومة الإرهابي “ديفيد بن غوريون” إلى قيادة المنطقة العسكرية الوسطى التي أصدرت أوامر إلى الوحدة المذكورة آنفاً وكتيبة المظليين رقم /890/ . ونصّ الأمر على: “تنفيذ هدم وإلحاق ضربات قصوى بالأرواح بهدف تهريب سكان القرية من بيوتهم”.
وتنفيذاً لهذا الأمر طوّق 600 جندي إسرائيلي القرية تماماً في ليلة 14 تشرين الأول وقصفوها بصورة مركّزة ودون تمييز، ثم دخلت قوة منهم إليها وهي تطلق النار عشوائياً بعد أن تمكّنت من التخلّص من المقاومة التي أبدتها قوة الحرس الوطني بإمكانياتها المحدودة في القرية، وبينما كان يجري حصد المدنيين العزّل بالرصاص قامت عناصر أخرى بتلغيم العديد من منازل الفلسطينيين وتدميرها على من فيها، وبعد ذلك فجّر المظليون خمسة وأربعين بيتاً من بيوت القرية ومسجداً وخزان مياه القرية، وتمّ قتل 69 مواطناً غالبيتهم من النساء والأطفال والشيوخ، وقال شهود عيان نجوا من المذبحة: إن جنوداً إسرائيليين رابطوا خارج المنازل في أثناء الإعداد لنسفها وأطلقوا النار على كلّ من حاول الفرار من هذه البيوت المعدّة للتفجير، وقد استمرت المذبحة الوحشية حتى الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي 15 تشرين الأول 1953.
في بادئ الأمر تذرّعت “إسرائيل” بأن الهجوم جاء انتقاماً لمقتل امرأة يهودية وطفلها، وادّعت أن مرتكبي المذبحة هم من المستوطنين الصهاينة وليسوا قوات نظامية، ولكن مجلس الأمن الذي أدان الجريمة عبر قراره رقم /101/ الذي صدر في 24 تشرين الثاني عام 1953، اعتبر الهجوم عملاً تمّ تدبيره منذ زمن طويل ونفّذته قوات نظامية إسرائيلية، وهو أمر أيدته اعترافات بعض القيادات الإسرائيلية فيما بعد.
لقد اعترفت بعض الصحف الإسرائيلية أن ما جرى في قبية كان مذبحة جماعية وجريمة رهيبة، فقد انفردت صحيفة “كول هعام” بعنوان: “ارتكاب عملية قتل جماعية في قرية قبية العربية” الذي نشر في 16/10/1953، حيث جاء في مقال افتتاحي لها “ضد القتل: القتل الجماعي على أيدي إسرائيليين مسلحين جريمة رهيبة.. دير ياسين جديدة”.
ورغم مرور سنين طويلة على صدور هذا القرار لا يزال الشعب العربي الفلسطيني ينشد العدالة والإنصاف من لدن العدالة الدولية التي أخفقت هيئاتها إخفاقاً ذريعاً في إعادة الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وزجر الجناة الإسرائيليين الذين يتمتّعون بتحصّن مزدوج: السلطة النافذة، والإفلات من العقاب، مستفيدين من التركيبة الانتقائية للهيئات السياسية الدولية على غرار مجلس الأمن الدولي البعيدة كل البعد عن التمثيل الحقيقي للمجتمع الدولي، فضلاً عن دوافع تدخلات تلك الهيئات والتي تحكمها عادة الإرادة السياسية المحكومة بالمصالح الحيوية للدول الكبرى.