الغزارة في إنجاز الكتب: نضج للتجربة أم مجرد استعراض؟
استغرقت رواية البؤساء لهوجو 12 عاماً حتى شهدت النور بينما أمضى كازو إيشيغورو 10 سنوات حتى أتم روايته “العملاق المدفون” من جانب آخر أنجز كافكا روايته “المسخ” في نحو ثلاثة أسابيع وجميعها روايات لقيت رواجاً واسعاً، بالتأكيد قد لاتكون هناك قاعدة عامة نستطيع الركون إليها عندما نتحدث عن العلاقة التي تربط بين الفترة الزمنية التي أمضاها الكاتب في كتابة عمل ما وبين جودة منجزه الإبداعي بعد أن يرى النور وقد يختلف ذلك تبعاً للأجناس الأدبية المتعددة، لكن لابد من طرح هذه القضية خصوصاً أن المتابع لنشاط البعض في وسطنا الثقافي يلحظ أن البعض يتبارون اليوم في إنجاز الكتب إن كان في مجال الشعر أو القصة أو الرواية أو النقد، بعضهم قد يكتفي بكتاب واحد في العام في حين يتجاوز آخرون هذا الرقم والأمثلة على ذلك عديدة من واقعنا الثقافي، لكن كيف ينظر من يعملون في مجال الأدب لهذه القضية وهل تعود إلى نضج التجربة الإبداعية لدى هؤلاء بما يؤهلهم لاختصار الزمن وحرق المراحل في تقديم تجاربهم على شكل كتب في أجناس أدبية مختلفة وبكثافة وهل لوسائل التواصل الاجتماعي دور في اختمار هذه التجارب وتسريع إنجاز الكتب أم أن ذلك لا يعدو كونه نوع من الاستسهال في الكتابة، لأن ميزان الحكم على النجاح من قبل البعض بات اليوم ينحصر في غزارة الإنتاج فقط؟ وقد طرحنا هذا السؤال على عدد من المشتغلين في حقلي الأدب والنقد والبداية كانت مع الناقد أحمد علي هلال إذ قال:
ما لم يسفر التراكم عن نوع يصبح عبئاً ومحض شغف في الكلام وهذا يقودنا إلى قراءة ما يُكتب اليوم من أنواع أدبية مختلفة تحت ضغط الزمن والتسارع ولا سيما في حقلي الرواية والشعر بوصفهما الأكثر حضوراً بمعنى الكم، وهذا ما يضعنا على أفق غير سؤال حقيقي بخصوص ما يُكتب بعيداً عن ثقافة الاستهلاك السائدة في زمننا الراهن والتي طاولت غير جنس إبداعي وفني، فصدور غير عمل إبداعي وفي فترة قياسية لكاتب أو مبدع لا يشي بالضرورة بنضج التجربة الإبداعية بل يمكن أن نقرأ من خلال ذلك محاولات حثيثة للحاق بالزمن ولحجز مكان تحت شمس الكتابة، وقد يبدو ذلك للوهلة الأولى مبرراً لكنه لا يجهر بحقيقة تعني الإبداع الخالص بقدر ما تحيلنا إلى محاولات أولئك الكتّاب تحت مسوغات التقاط اللحظة وتوثيقها وتدوينها دون الفسح في المجال لاختمار تلك اللحظة في وعيهم الفردي/ الجمعي، بمعنى أن طبيعة اختمار تلك التجارب تستدعي وعياً مضاعفاً ومؤسساً بمرجعيات فكرية وثقافية أكثر انفتاحاً على ما يتطلبه الزمن، وبفعل عوامل ذاتية شجع عليها الفضاء الأزرق أي -بسرعة الأحكام- لا سيما أحكام القيمة التي شكلت مناخاً ملتبساً لتلك التجارب لا يعدو كونه حفاوة عابرة لا تأثيثاً راسخاً لنوع أدبي يحتاج سعة وسيولة ونضجاً عميقاً كما هو الحال على سبيل المثال في الروايات والمدونات العالمية، لكننا لا نستطيع التعميم هنا لأنه في الأرجح الأعم ثمة كم وغزارة في المشهد العام يحتاجان للتنقية والغربلة حتى تستقيم الكتابة المؤسسة بالموهبة والثقافة والخبرة لا بالذائقة وحدها على أهميتها وبالتأكيد فإن الكتابة المجانية لا جذور لها ولا تستطيع العيش طويلاً تلك المستنبتة في أرض لا خصوبة لها بعيداً عن التنافس بين الأجناس، والإبداع الخالص يحتاج لصيرورات المبدع الحقيقية حتى تأخذ القراءة حقها لا أن تتطير إلى عناوين باذخة لا متن لها البتة، ولابد من التأكيد على زمن القارئ الشرط الأهم في معادلة القراءة بوصفه من يعيد إنتاج المكتوب، فثمة فارق بين الشغف والمعرفة فمحض كتابة الشغف لا تعني بقاء الأثر.
المبررات الموضوعية
ويرى د. نزار بني المرجة أن الكتابة الإبداعية لايمكن لها أن تكون إلا بعد وعي طويل للموضوع المطروق كون ذلك الموضوع هاجساً مؤرقاً للكاتب أو المبدع في أي جنس من الأجناس الأدبية وينسحب ذلك ليشمل حتى الأبحاث والكتب النقدية وهذا يتطلب وقتاً بالضرورة مع استثناءات ربما في القصيدة أو القصة بأنواعها، فالروائي بحاجة منطقية لأوقات طويلة نسبياً لرسم مسارات شخصياته الروائية لتخرج بالنتيجة ولتكون منسجمة مع ذاتها أولاً ومع السياق العام والمنطقي للعمل الروائي عموماً، وأستغرب نشر عدة أعمال في وقت واحد أو ضمن فترة وجيزة لهذا الكاتب أو ذاك رغم وجود مبررات موضوعية ربما لتفسير مثل هذه الحالات كأن تكون الأعمال الأدبية منجزة خلال سنوات سابقة ولم تتح لها فترة النشر حين إنجازها وتوفر هذه الإمكانية فيما بعد ورغبة الكاتب في اغتنام فرصة طباعتها أو إصدارها دفعة واحدة خشية عدم تكرار فرصة نشرها على مبدأ (إذا هبت رياحك فاغتنمها). ولكن هذه المسألة في المحصلة كما يؤكد بني المرج تنعكس سلباً غالباً لدى المتلقي الذي يضعه في المرتبة الأولى مؤكداً احترام وقته وظروفه لأن الوصول إليه وإشباع ذائقته هو الهدف الرئيس للكاتب أو المبدع في دنيا الأدب والكتابة.
لاتعبر عن التجربة
ويرى الشاعر يحيى محي الدين أن الإبداع لا يرتبط من حيث المبدأ بالزمن ولكن التجربة تضيف إلى المبدع بعداً كبيراً وتمده بقوارب التجديف في إبحاره الذي لا ينتهي، أما الغزارة في الإنتاج فلا تعبر عن التجربة الإبداعية سواء من حيث العمق أو من حيث العمر الزمني ويعتبر محي الدين أن الإبداع هو الابن الشرعي للألم والمعاناة أولاً ومن ثم تغنيه التجربة بتقنيات يكتسبها تباعاً، ومن وجهة نظري الأدب هو ما يتركه من أثر عند القراء أما الغزارة في إنتاج بعض الكتاب المعاصرين فغالباً تعود لأسباب أقرب للشكل منها إلى المضمون ولا أستبعد الاستسهال، إذ ما نراه على مواقع التواصل أقرب ما يكون لاستعراض فيه من الغث أكثر من السمين خاصة في ظل غياب النقد والإحساس بالمسؤولية تجاه الكلمة ودورها في العملية الثقافية.
جلال نديم صالح