الكتابات الضريرة…!
حسن حميد
منذ آماد بعيدة، قال أفلاطون في محاوراته، أن آفة العماء في الكتابة تعود إلى أسباب كثيرة، في طالعها انعدام الموهبة والثقافة والروح القادرة على التوليد والخيال! ومن أسبابها أيضاً عدم القدرة على التفريق ما بين (الأدبي) و(القولي)، وما بين (الكتابة الميتة)، و(الكتابة الحيّة)، والرضا الكذوب بما تحبّره الأقلام!
والحق، هذا كلام صحيح ونافذ وأبدي لأن من لا تؤيده الموهبة الأدبية غير قادر على كتابة الأدب، ومن ليس لديه ثقافة قادرة على الإحاطة والشمولية، ولا يعرف طعوم الخيال سيظل يركض في دائرة الواقعي المخترم والمدرك والمنهوب، فالكتابة العمياء أو الضريرة هي كتابة يستطيعها الجميع، من مسجل الأوزان في سوق الحسبة، إلى كتّاب الطلاسم، والدنيا، ليست بحاجة إلى الكتابة الضريرة، لا لأن عصرها ولى، وإنما لأنها ضريرة! ومع ذلك نرى هذه الكتابات العمياء منتشرة في كل مكان، ودانية من كل شأن، ولا راد لها، لأن أهل الذوق الأدبي قراءً وكتّاباً ونقاداً باتوا قلة إن لم يكونوا نادرين، ولهذا تجاسرت الكتابات العمياء على الظهور والشيوع في منابر القول والخطابة، وفي الصحف والمجلات والكتب، لأن العماء صار صفة مشتركة وشائعة، ولم يعد مثلبة، فالناقد انحنى أمام الكاتب، والقارئ صمت عن قول الحق فبات لا راد لهذه الكتابات العمياء لأنها استقوت بالزمن، فأصحابها يكتبونها هي هي منذ نشأتهم وحتى هذه الساعة، مع أن عمر تجربتهم الأدبية تخطت العقدين والثلاثة أيضاً!
ولهذا أعيد سؤال الكبير لينين مرة أخرى. ما العمل؟! وكيف نضع سياجاً شوكياً واخزاً لهذه الكتابات العمياء لعلها تتراجع أو تنكص إلى الوراء حياءً، لأن طريقها غير سالكة، العمل الحقيقي يكمن في تنمية الذوق الجمالي لدى الناقد، وتنمية حسّ المغامرة لديه، وقطع خيط الرهبة كي لا يخاف نصاً أعمى أو صاحب نصّ أعمى، وتنمية الحسّ السليم لدى القارئ لكي يكون أكثر كشفاً للكتابة السوداء، وأن يكون لصوته حوامل من أجل أن يسمع، وأن تقرأ التعاويذ، والنصائح، والموجبات على رؤوس من يكتبون الكتابات العمياء كي تُفطم أقلامهم عن كتابة لا علاقة لها بالجمال والخير والحق، وأن تتوب أصابعهم عن تحبير صفحات صارخة بالجهل، وأن تؤوب خطاهم ارتداداً من هذا الدرب الذي سلكوه لأنه ليس دربهم!
هذا كلام قيل قديماً، ومازال يتكرر بصيغ جديدة، والغاية منه تتمثل في وضع حدّ لاندياح طوفان الكتابات القشية التي لا تقول شيئاً، والمؤذية في حضورها لأنها تنفر القرّاء وتبعدهم عن أهداف الأدب العلوق بالجمال والقيم والرفعة، لأن كل من يفكّ الحرف اليوم بات كاتباً في صحف ورقية أو الكترونية، أو كاتباً في صفحات التواصل الاجتماعي، في حين كان النّساخ في أسواق الوراقة في بلاد العالم جميعاً لا يجرؤون على الإدعاء بأنهم كتّاب، وحين تطورت أساليب الطباعة لم يجرؤ أصحاب المطابع أن يقول الواحد منهم إنه كاتب، بل قال أنا طابع، مثلما قال الناسخ: أنا ناسخ!
وللبيان فقط، وصّفت الكتابات المتكاثرة بالعماء لأنها محشوة بالأغلاط الفاقعة التي ما عادت تراها العيون اليواقظ، وإن رأتها تسكت عنها، وفي هذا يكمن بؤس معظم الكتابات الصادرة مثلما يكمن بؤس الضغينة في النفوس الضعيفة!
HAsanhamid55@yahoo.com