البيانات الضخمة.. حرب نووية على أرواحنا
ترجمة وإعداد: سمر سامي السمارة
بحلول تسعينيات القرن الماضي، اختفى الجسر الذي كان يربط بين وسائل الإعلام، والأوساط الأكاديمية، ووكالات التجسس في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت عمليات النشر، وإلقاء المحاضرات، وكل جوانب الصحافة أو التعليم، إضافة إلى العلوم، والرياضيات، والهندسة، تأخذ صبغة سياسية، وبات أي فرد ينحرف عن هذا المسار يشكّل تهديداً، وقد تم اختراق وإدارة أية مؤسسة، رسمية كانت أم خاصة، عبر برامج قام بتطويرها مكتب التحقيقات الفيدرالي، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، في عهد مديره هوفر، وبالمقابل فإن كل “المخرجات”، أي كل محاضرة، وكل كتاب، وكل قصة إخبارية، “خضعت للفلترة والتحكم”، شكّلت مصدراً استخباراتياً “ارتجاعياً” لا يكشف عن “النوايا” فحسب، بل وعن “أنماط التضليل” المعتمدة، كان هذا قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وبرنامج التعرّف على الوجوه، وإجازة الماسحات الضوئية التي يمكن أن تفحص كل شيء، ابتداء من غراماتك غير المدفوعة، وصولاً إلى سجلاتك الطبية.
لكن، على الرغم من الجهود التي يبذلها دعاة الخصوصية، وعلى الرغم من لوائح الاتحاد الأوروبي، فقد تشكّلت في الظل “صناعة” تتنافس الآن، وتتوازى بعمق مع كتلة الأسلحة العسكرية على نحو غير مرئي وغير خاضع للرقابة والمساءلة، ولا يمكن إيقافها.
وفي عام 1975، تم إنتاج فيلم شمل المراحل المبكرة لنتائج هذه المسارات، وقد استعرضها الناقد السينمائي روجر ايبرت، وهي: “ثلاثة أيام من كوندور” الفيلم شديد التوتر الذي تمت صناعته ببراعة، والأمر المخيف أنه في تلك الأشهر- بعد ووترغيت- كان كل شيء قابلاً للتصديق، حيث تم العثور في منشورات يسارية غامضة عن مؤامرات تنطوي على جرائم قتل تقوم بها الوكالات الفيدرالية، وقام الممثل الأمريكي روبرت ريدفورد بتجسيد ذلك ببراعة، والسؤال الذي يطرح نفسه: كم استغرق الأمريكيون من الوقت حتى اعتادوا على أكثر الاحتمالات إحباطاً بشأن حكومتهم؟ وإلى متى سيقومون بالتسويق لها؟.. لقد اعتاد نجوم هوليوود على لعب دور رعاة البقر والجنرالات، والآن يقومون بأدوار المتلصصين والقتلة، أو المستهدفين.
بعد ذلك، في عام 2010، قدمت شبكة “IMC” مسلسلاً تلفزيونياً جديداً تميز بمزيد من التركيز، ولكن سرعان ما تم التخلص منه عندما بدأت حبكته توحي للجميع بأن جهازاً داخل الولايات المتحدة قادراً على تخطيط وتنفيذ أحداث مثل أحداث الحادي عشر من أيلول 2001.
ماذا يمكن أن تكون السلسلة المتميزة القادمة؟
لابد من الرجوع إلى “روبيكون”، الدراما الجاسوسية المستلهمة من روايات مؤامرة السبعينيات، وإلى “الأيام الثلاثة للكوندور”، و”المحادثة”، والفيلم السينمائي السياسي الأمريكي “كل رجال الرئيس”، لقد حركت هذه الأعمال مجتمعة مخاوف الرأي العام الأمريكي عقب أحداث 11 أيلول، وتركز هذه السلسلة التي أنشأها جايسون هورويتش على محلل الاستخبارات ويل ترافرز الذي قاده تحقيقه للموت الغامض لمعلمه ديفيد هاداس إلى اكتشاف شبكة غامضة من النخب التي تستخدم بيانات رب العمل، ووكالة الاستخبارات الخاصة (معهد السياسة الأمريكية) للتلاعب بالأحداث العالمية لتوخي الربح، أغرق مسلسل “روبيكون” مشاهديه في: “بيئة مألوفة مفعمة بالذعر، شخص ما يراقبك دائماً، خطر يتربص بك خلف كل زاوية، ولا يمكنك الوثوق بأحد”، هكذا بدأت الأمور منذ عدة سنوات: قلق من قراءة كل شيء، تنصت على الجميع متبوع بإخضاع الناس لاختبار حبهم للوطن، حيث في نهاية المطاف يتساوى التزام الصمت والتواطؤ التام في عملية جديدة.
يتم أولاً التشهير بأولئك الذين يجاهرون بآرائهم علناً، وغالباً ما تقوم مراكز الأبحاث، أو مؤسسات مثل “رابطة مكافحة التشهير” أو “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية” (الايباك)، أو “الاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة” بالتمويل، ثم تبدأ المراقبة والمطاردة عبر الأنترنت في البداية، ولكن لاحقاً، إذا كانت التقارير صحيحة، تصبح المضايقات الالكترونية على نطاق واسع، ابتداء من قوائم “حظر الطيران”، و”مراقبة الإرهاب”، وصولاً إلى زيارة من مكتب التحقيقات الفيدرالي.
وإذا لم تؤت هذه الإجراءات أكلها فمن غير المستبعد حدوث نوبة قلبية مزيفة أو انتحار، وربما حادث تحطم طائرة، أو حادثة غرق قارب، مثل تلك التي تعرّض لها السيناتور السابق جون تاور، وعائلته، ومدير أعماله، أو روبرت ماكسويل، الجاسوس الشهير، والابتزاز “الأعلى”، على افتراض صحة التقارير.
هناك منطقة أخرى للفشل، وهذا هو حجم المشكلة القائمة، فتعابير مثل “الخصوصية”، أو حتى “التحكم الذهني”، أصبحت تصريحاً مكبوحاً يقلل من قيمتها الأصلية، وهذه المصطلحات لا تعمل إلا كتكنولوجيا تطفل أو تجسس، وهواتف تقيس المكان الذي نسير فيه، ومعدلات نبضات القلب أثناء التحدث، ومن نتحدث معه، وتسجيل ما نقوله وما نسمعه، ترى إلى أين سيمضي هذا؟،
إذاً الافتراض بأن لا أحد يرغب في الحصول على هذه المعلومات الكثيرة، أو وجود بعض الاحترام للخصوصية الفردية، هو افتراض أكثر من ساذج، ويبقى الأسوأ من ذلك، ومع سيطرة أولئك الذين خلقوا المشكلة على المناقشات الحقيقية التي تتعلق بالخصوصية، فإن القدرة غير المحدودة “للبيانات الضخمة” على إعادة تشكيل الوجود الإنساني للقيام بذلك بالتحديد ستبقى خارج أي من المحافل الجماهيرية.
على سبيل المثال، في الماضي كان الأمريكيون دائماً ينظرون إلى الاضطرابات العامة، مثل معارضة الحرب في فيتنام، أو رفض المرشّح الرئاسي باري جولد ووتر في عام 1964 باعتباره “متطرفاً”، استناداً إلى التغطية الإعلامية وحدها، فلم تكن هناك قنوات تفاعلية بخلاف وسائل الإعلام تخبرهم كيف يفكرون استناداً إلى “ملاحظاتهم غير المحايدة”.
يعتقد البعض أنه من الآمن القول: إن وسائل الإعلام لم تكن أبداً منحازة، وإن الاضطرابات العامة التي تم رصدها وذكرها، في أغلب الأحيان، لم تكن خاضعة لإملاءات مصادر أكثر سوداوية مثل تلك التي قادت أمريكا لتدمير العراق.
من الأجدى القول: إن وسائل الإعلام لا تتطرق إلى الحديث عن حدوث اضطرابات ما، سواء كانت تتعلق بعزل ترامب أو بقصف إيران إلا إذا كانت تخدم الدولة العميقة، وعليه فإن ما يجب أن يؤخذ على محمل الجد هو السجل الحافل بالانتهاكات القائمة الذي يثبت تورط العديد من المؤسسات ووسائل الإعلام والصحافة والتعليم والحكومة والمحاكم والشرطة، ولكن مجدداً يخشى الأمريكيون الآن جيشهم، ولديهم كل الأسباب للاشتباه في أنه قد يتحول إلى قوة احتلال للأمريكيين ضد الولايات المتحدة لأنه لم يعد له دور شرعي خلاف ذلك.
هذا ليس تهديداً “أورويالياً”، وليس غزواً أجنبياً، ولا حتى تقريراً إخبارياً عن المحرقة من أصحاب النفوذ، وهذه هي المخاوف التي أثيرت بعناية للرأي العام اليوم، ولا تقترب من الحقيقة، دعونا نلقي نظرة على “آليات” المراقبة، تخيل عالماً لا توجد فيه حكومات حقيقية، حيث يجري تسليم “نقاط المناقشة” الغامضة للجميع، وللدبلوماسيين، وللمشرعين، وحتى للزعماء الوطنيين.
تصل الآن “نقاط النقاش” نفسه، وهي قائمة الأكاذيب والخدع الرسمية الواردة في ذلك اليوم، إلى الملايين والقضاة ومسؤولي الشرطة، ولكنها أكثر تهديداً، “النشطاء” وبالطبع وسائل الإعلام، وأي شخص يتلقى رواتب عامة، أو الآلاف ممن يتلقون رواتب سرية من حساب أولئك “الديناصورات العملاقة” التي تعزز “عالمنا القزم”.
التهديد الذي تشكّل قبل سنوات بدأ يترسّخ اليوم، فالامبراطوريات التي بناها ماكسويل ومردوخ، والتي حكمت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واستراليا ونيوزيلندا، هي وحدة متكاملة جمعت بين الطباعة والإنتاج مع عمليات استخباراتية، وعمليات ابتزاز واغتيالات، وإذا كانت مصادر التحقيقات صادقة فإن ذلك يعتبر في مصاف الأعمال الإرهابية.
انتهى المطاف على هذا المنوال، في أعقاب وفاة جيفري ابستين الغامضة “الانتحار” في السجن، التي تم التعتيم عليها من وسائل الإعلام بعد أيام، بينما كان الجمهور المخدوع يتوقع محاكمة من شأنها أن تفضح عالم النخبويين الذين تشبعت حياتهم في مستنقع من الشرور لا يمكن تصوره، والذي أودى إلى العالم الذي نراه اليوم.
في الحقيقة، هناك رغبة على نطاق واسع في فهم سبب انحدار البشرية عن سلمها التطوري، حيث يكون كل عقد أسوأ من العقد السابق، وأكثر ظلماً وأقل تسامحاً، ويصل حجم المعاناة الإنسانية والفساد إلى مستويات لا يمكن تخيلها.
يبحث جمهور محتار عن إجابات، فيتم تلقيمه بما يريدون: نظريات تقليدية عن مؤامرة يتم نسجها على أساس “بيانات ضخمة” تضم أكثر من 500 مليون “مؤثّر” في عالم اليوم الذي تسيطر عليه الأجهزة، وهي نظريات تستوعب الخدع، وتزيد الخوف والكراهية.
ما هي “البيانات الضخمة”؟ هل يمكن لتلفازك أن يراقبك حقاً؟ هل يقرأ غوغل بريدك الالكتروني الخاص؟ وهل تتم فهرسة كل ما تشاهده أو تستمع إليه؟ وهل يتم تحليل كل بحث تقوم به، أو تقرؤه؟.
إذا كنت تعتقد أن هذا كل شيء، فأنت مخطىء، هم يعرفون كم يستغرق الوقت لقراءتها، وثمة بعض الأجهزة تعرف المكان الذي تم توجيه نظرك إليه على الشاشة أيضاً، وبالطبع، يتم التنصت على هاتفك طوال اليوم، وأينما ذهبت، والمدة التي تقضيها هناك، ومن تزور، وماذا تشتري، وتُقدم تقارير تصل إلى 600 مرة يومياً لمستخدمي أندرويد، بحسب دراسة أجريت مؤخراً.
الأمر أبعد من ذلك، فالتعرف السريع على الوجه لا يكتفي برؤيتك، بل يريد التعرف على تعابيره أيضاً، يتم تطوير البرامج وتوزيعها بسرعة، بحيث تراقب كيف تمشي، وتكتشف حالتك المزاجية، وصحتك، وتعرف عنك حتى أكثر مما تعرفه، هل نحن جميعاً صورة مصغرة عن الإرهابيين المحتملين؟ الحقيقة أنه يتم إنفاق نصف تريليون دولار سنوياً، وأكثر مما يتم إنفاقه على جميع الأسلحة النووية، على جمع وتحليل “البيانات الضخمة” التي تغذي ليس فقط المصالح التجارية، ولكن، كما أثبت عام 2016، المصالح السياسية أيضاً.
هم لا يريدون أن يبيعوا لك سيارة، بل يريدون أن يبيعوا لك الحرب، وأكثر من ذلك يقنعونك بأنك لا تستطيع العيش دونهم، على الرغم من أنك لن تعرف أبداً من “هم”!.