حمام زاجل
د. نضال الصالح
في “نهر الذهب في تاريخ حلب” ينقل الشيخ كامل الغزّي، مؤلّف الكتاب، عن القاموس التجاري للفرنسي “جاك سواري دي تروسلون”، المطبوع سنة 1723 م، قول “دي تروسلون” عن التجارة في حلب في النصف الأول من القرن الثامن عشر: “ومن خصايصها التجارية (أي حلب) وجود الحمام الذي يأتي تجارها بالأخبار من اسكندرونة بثلاث ساعات بسبب تربيته بحلب وحمله إلى اسكندرونة بأقفاص، فإذا طرأ خبر عُلّقت البطاقة في رقبة الطير، وسرح، فيطير إلى حلب طلباً لفراخه”. وقبل الحلبيين اتخذ نور الدين الزنكي الحمام الزاجل في بلاد الشام لإرسال الأخبار بسرعة كما ذكر ابن خلدون في مقدّمته، وقبلهما كان اليونانيون يلجؤون إلى ذلك كما ذكر “ديورانت” في “قصة الحضارة”، وفي “خزانة الأدب” لابن حجّة الحموي أنّ “القطا” أكثر الحمام الزاجل كفاءة في هذا الشأن، حيث يُضرب به المثل في معرفة الطرق، ولعلّ قصيدة الشاعر الراحل سميح القاسم “في انتظار طائر الرعد” أكثر نصوص الشعر العربي براعة في استثمار رمز الحمام الزاجل، ولاسيما في تصويرها وطأة هزيمة حزيران على الذات العربية، وانتظار هذه الأخيرة خبراً يحرّر هذه الذات من تلك الوطأة، ويعيد إليها التوازن الذي فقدته على غير مستوى.
الحمام الزاجل ذلك ما كان قبل آلاف السنين من وسيلة لإبلاغ رسالة بأقصى ما يمكن من السرعة، ثمّ قبل مئة كان البرق والبريد والهاتف، ثمّ قبل عقود ليست قليلة كان الهاتف الجوال، فالشبكة الإلكترونية التي جعلت العالم من أقصاه إلى أقصاه قرية كونية بسبب ما زخرت به من إمكانات، بل من وسائل للتواصل مكّنت الإنسان من اختزال المسافات بقبلة دافئة من ذؤابة شاهدة على مفتاح صغير في مستطيل يستجمع حروف الأبجدية والعمليات الحسابية وغير قليل من الاختصارات التي تعني هذه الخصيصة أو تلك فيما اصطلح معظم اللغات عليه بالكومبيوتر، واختارت المجامع اللغوية العربية له اسم الحاسوب.
اختزلت الشبكة العنكبوتية الفضاء الإنسانيّ إلى أصغر وحدة قياس للمجتمع، ومعها، ومن خلالها، صار كوكب الأرض فضاء متناهي الضآلة على مستوى المساحة، ولاسيما ما يعني المعرفة، أو بلوغها على نحو أدقّ، وبسبب ذلك أصبح رقيّ أيّ مجتمع وتحضره وتقدمه يتناسب طرداً مع علاقة أفراده مع هذه الشبكة، كما أصبحت الشبكة نفسها دالاً بامتياز على الحضارة والمدنية والحداثة.
ولكن، وهذه الـ”لكن” ليست تلك التي قصد سيبويه إليها في “الكتاب” من أنها واحدة من الحروف التي يجوز أن تليها الأسماء كما تجوز أن تليها الأفعال، وليست ما تحدّث عنها سواه من النحويين، بل ما تعنيه من نفي لما سبق من القول عن الاختزال، والصيرورة، والرقيّ، والتناسب الطردي، والدالّ بامتياز، وسوى ذلك ممّا يتمنّى المرء معه لو أنّ لديه حماماً زاجلاً، فيستعين به على إرسال هذا المقال إلى الجريدة، بينما يستعيد صوت الموظف ونظراته وهو يقول له بحسم وحزم: قلت لك ما في “بوّابات” يا أخي، ما في.