دراساتصحيفة البعث

الصين تؤسس لجغرافيا جيوسياسية

عناية ناصر
لا شك أن الجغرافيا هي الأكثر ثباتاً في تشكيل ثروة أي بلد في العالم، كونه رهين تموضعه. وعادة ما تتغيّر المزايا والعيوب التي تأتي من موقع الدولة، إن وجدت. وهذا ما يجعل جهود الصين لإعادة تشكيل المشهد الاستراتيجي لأوراسيا ملفتة للنظر، حيث تضع بكين رهاناً بقيمة تريليون دولار لتحويل جغرافيتها الإستراتيجية من قيد إلى أصل جغرافي سياسي قوي والذي سيكون تحولاً كبيراً بحسب المتابعين.
بالنظر إلى المسؤوليات التي ترتبها الجغرافيا على الصين، فعلى أطرافها البحرية تواجه حلفاء الولايات المتحدة وشركاء استراتيجيين يوفرون نقطة انطلاق لتجسيد القوة الأمريكية في غرب المحيط الهادئ. وإلى الشمال، هناك روسيا الطموحة. وعلى الأجنحة الغربية والجنوبية للصين، هناك دول مثل فيتنام والهند، والتي يُتوقع أن تعارض صعود بكين، ودول آسيا الوسطى، التي كانت تقليدياً موقعاً للتنافس مع روسيا.
الصعوبات الجغرافية لا تنتهي هنا، فاقتصاد استهلاك الطاقة في بكين يعتمد اعتماداً كبيراً على النفط والغاز الطبيعي من الشرق الأوسط. وهذه الواردات تمرّ عبر نقاط بحرية -مضيق تيران إلى البحر الأحمر، ومضيق ملقا قبالة إندونيسيا- والتي يمكن أن تغلقها البحرية الأمريكية. لذلك ليس من المستغرب أن يدرك القادة الصينيون أن جهود الصين للعالمية تتطلّب تغيير الجغرافيا الإستراتيجية للبلاد.
هذا هو المعنى الحقيقي لمبادرة الحزام والطريق الصينية، والتي هي مجموعة من برامج الاستثمار والتجارة والبنية التحتية التي تغطي أوراسيا والمناطق المحيطة بها، بما في ذلك القرن الإفريقي، بتكلفة إجمالية قد تصل في نهاية المطاف بين 1 إلى 2 تريليون دولار. لقد وصفت هذه المبادرة بأوصاف كثيرة منها: أداة مالية، تعبير جذاب، تهديد لزعامة الولايات المتحدة للنظام العالمي. ومع ذلك، فهي تمثّل في جوهرها مجهوداً لبناء فضاء جيو-سياسي أكثر تكاملاً بين أوروبا وآسيا، مركزه الصين.
إن الاستثمار في خطوط أنابيب الطاقة التي تمرّ عبر آسيا الوسطى وما وراءها ليس مجرد وسيلة لإبقاء صناعات الصين قوية، بل هو أيضاً طريقة لإنشاء طرق إمدادات برية لا يمكن تعطيلها بسهولة من قبل الولايات المتحدة، وإن تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية والبنى التحتية الأعمق مع بلدان من كمبوديا إلى أوروبا الوسطى هي وسيلة لجذب هذه البلدان إلى مدار الصين الجيوسياسي، والجيو اقتصادي، أو على الأقل جعلها أقل مقاومة لنفوذ بكين.
إن توسيع العلاقات الاقتصادية مع البلدان في جميع أنحاء أوراسيا يوفر إمكانية إنشاء نظام اقتصادي وتكنولوجي مركزه الصين، في وقت تمرّ فيه واشنطن وبكين بحالة تباعد بطيء. ومن خلال متابعة علاقة التعاون مع روسيا -وهي مبادرة مختلفة عن الحزام والطريق- ولكن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بها، تقوم الصين ببناء كتلة تمتد على جزء كبير من مساحة الأراضي الأوروبية الآسيوية. على الرغم من أن المسؤولين الصينيين قد لا يصفون الأمر على هذا النحو، غير أن الهدف النهائي يعكس أفكار هالفورد ماكيندر، عالم الجغرافيا البريطاني الذي ساعد في أوائل القرن العشرين على نشر فكرة أوراسيا كمساحة جيوسياسية. وحذّر ماكيندر من أن القوى البحرية في العالم يجب أن تمنع أي دولة معادية من السيطرة على مساحة اليابسة الأوراسية، والصين لا تسعى إلى القيام بذلك عسكرياً. وبدلاً من ذلك تستخدم بكين نفوذها الجيو اقتصادي للبحث عن النفوذ المفقود عبر أوراسيا، وبالتالي إنشاء مركز استراتيجي تستطيع من خلاله إبراز قوتها أكثر فأكثر.
والسؤال هو ما إذا كان هذا سوف ينجح بالفعل؟، لا يمكن تغيير جهة الجغرافيا الإستراتيجية بسهولة، وعلى الرغم من أن الصين تبدو متصاعدة في الوقت الحالي، إلا أن هناك العديد من الصعوبات الكامنة التي تواجهها. ولسبب واحد، فإن مشروع الصين الأوراسي لن ينجح إلا إذا بقيت روسيا شريكة وليس منافسة. وحتى الآن، فاجأ الرئيس فلاديمير بوتين العديد من المراقبين الأمريكيين بالسماح للصين بالاستثمار الحر في كل مناطق النفوذ الروسي، حتى أن موسكو منحت شركة هواوي الصينية العملاقة للاتصالات دوراً رائداً في تطوير شبكات الجيل الخامس الروسية.
هناك أيضاً أسباب للشك في الجدوى الاقتصادية لمبادرة الحزام والطريق، لقد استثمرت البنوك الصينية بكثافة في مشاريعها، لكن العديد من هذه القروض كانت بالفعل ضعيفة الأداء. يميل المسؤولون الأمريكيون إلى اعتبار هذا وضعاً خطيراً بالنسبة للغرب، لأن الدول التي لا يمكنها سداد ما تدين به ربما يتعيّن عليها أن تستسلم لسيطرة بكين على الموانئ والبنى التحتية الإستراتيجية الأخرى. ومع ذلك، فإن الوجه الآخر لذلك يتمثّل في احتمال أن تؤدي القروض المعدومة إلى زعزعة استقرار النظام المالي في الصين، تماماً كما يتصارع النظام مع فقاعة ديون ضخمة. إضافة إلى ذلك، كما كتب هوبكنز دانييل ماركي من جامعة جونز، فإن الحزام والطريق هو المكان الذي تتقاطع فيه التصميمات الجيوسياسية الكبرى مع الواقع المحلي، لكن الأكيد أن الصين ستجني نفوذاً أكبر من خطتها الأوراسية الطموحة، وستجني أيضاً الكثير من الصداع الدبلوماسي والاقتصادي.
أخيراً، هناك مسألة كيفية استجابة القوة العظمى المهيمنة؟. لدى الولايات المتحدة كل الدوافع لمنع بكين من تحقيق أهدافها، ويدرك العديد من جيران الصين الأوراسيين، أن استقلالهم سوف يتعرّض للخطر إذا حقّقت الصين الأولوية. ومع ذلك، كانت إدارة دونالد ترامب حتى الآن أفضل من خفّف من هذا الاحتمال بتطوير بدائل ذات مغزى للبلدان التي تحتاج إلى رأس المال والبنية التحتية والتكنولوجيا. كما أظهرت القليل من المهارة والثبات اللازمين لحشد تحالف مقابل. من خلال اتباع سياسات التجارة التي تلحق الضرر بالأصدقاء والمنافسين، تخلق الولايات المتحدة المجال الاقتصادي الذي تحتاجه الصين عبر تبديد نفوذها في الشرق الأوسط، وفتح الباب أمام نفوذ صيني أكبر هناك.