الدراما التركية في مأزق
يمكن القول أن عصر الرداءة “التركيّة” في الدراما التلفزيونية، قد بدأ يواجه دراما مضادة، لما قدمته تلك الدراما الدخيلة! فبعد أن قامت الدراما التركية، بحشد طاقاتها، واستخدام أصوات الممثلين السوريين للأسف، في شركات دوبلاج، نمت كالفطر هنا وهناك؛ كان خريجو المعهد العالي للفنون المسرحية-قسم التمثيل-، يقدمون أفضل ما لديهم من أداء متكامل في دراماهم المحلية، وتلك البراعة التي تمت سرقتها حرفيا، جاءت مما تعلمه ممثلونا مجانا خلال 4 سنوات من دراستهم الأكاديمية لفن التمثيل، لتصبح أصواتهم التي ألفها الجمهور العربي برمته، في خدمة الدراما التركية وأحد أهم أسباب انتشارها في العالم العربي.
تلك الدراما التي كانت تقدم نوعين من الأعمال، إما معاصرة سطحية تغلب عليها العواطف “المشلخة” والرومانس الساذج، والتي لا تُقنع حتى الأطفال، لكنها تمتلك نساء جميلات ومناطق سياحية جذابة بصريا، وأثاثا فاخرا مع آخر صيحات الموضة في عالم السيارات الفارهة، أو-أي النوع الثاني- فيتمثل في تزييف التاريخ، والترويج لأكاذيب مهولة فيه، من خلال أعمال قدمتها الدراما التركية تحكي عن روعة وجمال “حريم السلطان”، السجن الكبير الذي كان يضم ألف امرأة من السبايا عليهن حراسا ليس لهن وظيفة إلا أن تختار آمرة السجن بعضهن في كل ليلة للسلطان، فمن تحمل تُعزل جانبا، علّها تكون أم وليد العهد، ذلك رأيناه على أنه شيء يجب الاقتداء به، أو مثلا عن “أرطغرل” الذي يرتبط اسمه بعصور الظلام في منطقتنا وفي أوربا الشرقية؛ كل تلك “البربوغندا” القميئة لم تأخذ بنصيحة –الذي بيته من زجاج- فالتاريخ الدموي للعثمانيين، تكفي فقط اضاءات طفيفة عليه لينكشف، أصلا ضحايا ذلك التاريخ ما زال الكثير منهم أحياء بيننا يُرزقون، الحجر الذي يُضرب الآن على بيت الزجاج “التركي”، هو مسلسل “ممالك النار”، من كتابة السيناريست المصري “محمد سليمان عبد المالك” وإخراج البريطاني “بيتر ويبر”، بتكلفة ضخمة مقارنة بالمسلسلات العربية، فقد فاقت الـ 43 مليون دولار، وتم تصويره في تونس.
العمل يتناول، فترة تاريخية بين نهاية حكم الممالك وبداية الغزو التركي، وهي بداية سيطرة الهمج الأتراك على المشرق، في اكبر ضربة للحضارة الإنسانية حدثت يوما، ويكشف الكثير من دموية ووحشية وهمجية الاحتلال العثماني، وهذا استنفر “أحباب” تركيا للهجوم على العمل، فشهدت الصحافة ومواقع التواصل سجالا كبيرا، بين معجب وكاره، فوزير الثقافة والسياحة التركي-لاحظوا هذه الخلطة بين الوزارتين، التي لا يفعلها إلا مدير ملهى- وصف المسلسل بأنه مسيئ لتركيا ولسمعتها التاريخية، ما استدعى ردا من كاتب العمل المرموق، قال فيه: “المسلسل محاولة لاستثمار الفن في توسيع وعي المتلقي ومداركه، وعلينا أن ندرك أننا في معركة وعي مستمر، تحاول تركيا حسمها لصالحها بتقديم أعمال زائفة ولا ترصد الحقائق بصورة محايدة”.
يمتاز نص المسلسل بالتعامل مع السرد الدرامي بطريقة –المشهد-المرحلة- فيحاول كل مشهد أن يُقدم شبه قصة متكاملة، بمستوى احترافي بديع، وذاك بحذف الزمن الواقع بين مشهد وآخر، على افتراض أن ليس كل ما يحدث في الواقع تاريخيّ، ويصلح للتعامل معه كتاريخ، مستعملا تقنية الحذف بين مشهد ومشهد لاحق أو سابق، فيستبعد التفاصيل غير الضرورية، محققا مبدأ –المشهد الذروة-، فكل مشهد يكفي بمفرده لجذب الجمهور والتفاعل مع القصة، وهو ما نجح الإخراج بتقديمه، من خلال ترك نهاية المشهد، للعفوية في الأداء من قبل الممثلين، ما يؤكد مبدأ “عفوية الحدث التاريخي”، وذلك بأن يُترك للممثل خيار إنهاء المشهد في الثواني الأخيرة، على طريقته كممثل، في فرضية إبداعية، تقوم على مبدأ “ماذا تفعل لو كنت في ذلك الزمن؟”.
المغامرة الاحترافية، كانت بأن يترك المخرج، لكل ممثل أن يقدم رؤيته للشخصية، وهذه تُحسب للمخرج البريطاني، الذي ترك للممثلين العرب المجال لفهم شخصيات من بيئتهم، سيكون من الصعب عليه هو، أن يعرف كيف تتصرف.
الإضاءة في العمل تشكل خرقا في الاعمال التاريخية العربية، تحقق ذلك باعتماد الاضاءة الواقعية، ليس ذلك الخمري أو الأحمر الفاقع،والذي نراه في الأعمال العربية التاريخية عادة، وقد ساهم تضارب الألوان وتناقضها في “ممالك النار”، بالإيحاء بتضارب الأحداث وتنافرها ولا منطقيتها.
لضمان التشويق، وتدفق الأحداث، وللهروب من مشكلة تقديم تاريخ في مسلسل، تاريخ حقيقي ليس كاذبا مثل الذي تُقدمه الدراما التركية، فقد نجح صُناع العمل في تصميم حبكة مغامرات على أرضية تاريخية، فكانوا أُمناء للتاريخ بتقديم وقائعه، وأيضا كسبوا الجمهور العربي.
المسلسل يُبشر بأعمال شبيهة واعدة، قد تتطور لتضع حدا لتلك “المهزلة”، التي تُدعى “دراما تركية”، وفوق ذلك يُشكل نقلة نوعية في الدراما التاريخية العربية، لأنها تتعامل مع “العصور الذهبية” من تاريخنا، دون أن تقترب من العصور الأقرب إلينا والأكثر تأثيرا على حياتنا، مثل بداية عصر الظلمات العثماني.
يؤخذ فقط على المسلسل أنه يشبه قليلا الدراما التاريخية الغربية التي غالبا ما تكون “عجائبية”، أو “خرافية”، هذا ظهر فقط في حركات الكاميرا ومشاهد الحروب والحرائق، ولكن بجميع الأحوال، لا بد من الترحيب بهذه الدراما التي تبدأ بوضع سدّ لنهر الأكاذيب الدرامي التركي.
تمّام علي بركات