واشنطن وسَبْر الديمقراطية
ترسّخَت على مدى عقود طويلة في اللاوعي العالمي فكرة أن الولايات المتحدة الأمريكية هي مطبخ الديمقراطية ومركزها الرئيس، نتيجة محاولات الإدارات المتعاقبة الترويج لذلك منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتصاعد نفوذ واشنطن، وسريان حالة القطب الواحد في النظام الدولي، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
منذ ذاك الحين تحاول واشنطن إظهار نفسها على أنها الأب الشرعي للديمقراطية في العالم، والمصدّر الأساسي لها، مستدركةً خطر صحوة الشعوب والحكومات العالمية بعد تعافيها من الحرب والانقسامات على تسيّدها النظام الدولي، لتجد سبيلاً إلى حل ذلك بالتدخل في شؤون الدول وسياساتها الداخلية لصالح الحفاظ على أمنها ومصالحها في العالم، وحتى اليوم تُحَاك الديمقراطيات في العالم وفق القياسات التي ترتأيها واشنطن.
مع وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة مطلع عام 2017، تنبّأ غالبية المحللين السياسيين في المنطقة العربية والعالم بأن السياسات الأمريكية ستشهد تغيّراً ملحوظاً على مستوى العلاقات الدولية، وسيكون أسلوب ترامب غير مألوف في إدارة القضايا، وحدث ذلك بالفعل، ولكن ليس كما يُشتهى، فلم تمضِ ستة أشهر على استلامه لمهامه حتى صُنّف في استطلاعات الرأي كأسوأ رئيس للولايات المتحدة الأمريكية منذ 70 عاماً، مستحقّاً التصنيف مع سياساته العنصرية وأسلوبه “الفظ” في التعبير والتعامل مع الصحفيين، ويمكن القول: إن الاتهامات والانتقادات طالت ترامب منذ خطابه الإعلامي الأول في مرحلة الانتخابات.
ومجدّداً عادت الانتقادات لتحيط بترامب نتيجة اشتباه الديمقراطيين بأنه أساء استخدام سلطة الرئاسة بالضغط على نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ليجري تحقيقاً حول هانتر نجل جو بايدن، خصمه المحتمل في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مهدّداً إياه بالامتناع عن تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 400 مليون دولار في حال رفض المثول لرغبات ترامب.
لكن الجديد هو التطوّر الذي شهدته تلك الانتقادات، وارتقاؤها إلى مستوى إثبات التهمة بالأدلة، بعد شكوى قدّمت إلى الكونغرس من قبل موظف مجهول من المخابرات المركزية الأمريكية استمع إلى مكالمة هاتفية بين ترامب وزيلينسكي، فكان الديمقراطيون في المرصاد، وبدؤوا إجراءات مساءلة وتحقيق في قضية انتقلت إلى العلن مع بداية الأسبوع الجاري، محاولين إثبات التهمة في سبيل عزل ترامب ومحاكمته أمام القضاء.
تضع هذه التطوّرات ترامب في موقف حرج، ولا سيما مع إصرار السلطات القضائية على التحقيق في الواقعة، وتأكيد قضاة أمريكيين أن لا أحد حتى رئيس السلطة التنفيذية فوق القانون، كما أنها تضع واشنطن أمام اختبار حقيقي لـ”الديمقراطية” التي تزعمها، و”الاستقلالية” التي تدّعي أن قضاءها يتمتع بها.
وكما جاء فوز ترامب مفاجئاً في الانتخابات الرئاسية ومخالفاً لكل استطلاعات الرأي، يمكن التشكيك في حسن مآل هذه القضية أيضاً، ويؤخذ بالحسبان موقف ترامب من الاتهامات ومن جلسات التحقيق التي بدأها الديمقراطيون، إذ ضرب بها عرض الحائط، ووصفها بأنها “عملية احتيال كبيرة”، بالإضافة إلى دور مؤسسات الظل واللوبيات، أو ما يسمى الدولة العميقة، واضطلاعها بشكل ملحوظ في صناعة القرار الأمريكي، وهنا يُتنبأ بأثر معدوم أو محدود لأي حكم قضائي أو اتهام يطال ترامب في حال بقي ضمن دائرة دعم “الظل”، وبالتالي، إخفاق أمريكي متوقّع، أو شبه مؤكد، في سبر الديمقراطية!.
ريناس إبراهيم