.. في السبخة!
حسن حميد
أعود من بلدة صغيرة اسمها (السبخة) مبللاً بالندى والرضا، مثل صباح كوّنته أنوارٌ فجرها هادئ راح ينمو رويداً رويداً حتى صار رحابةً من رحابات الفرات العظيم.
السبخة، قرية صغيرة ببيوتها وسعتها، ولكنها كبيرة بحضورها الوطني والروحي والإنساني، فهي اليوم المنصة التي تمثل جمال مدينة الرقة وصبرها وعطش أهلها الشديد للقياها طلباً للرواء والعودات الحميدة.
في السبخة اليوم، التي تكاد، لو مدت ذراعها، تشاطئ ضفة الفرات الغربية، الحضور الإداري، والاجتماعي، والسياسي، والعاطفي الذي يستعد لمدّ الخطا نحو مدينة الرقة التي هي قاب قوسين أو أدنى لتعود بهمة الجيش العربي السوري إلى ربوع الوطن السوري العزيز.
أياماً رائقات طيبات دافئات عشناها في السبخة بمناسبة مهرجان العجيلي للرواية، بحضور أدباء ونقاد ذوي مكانة جاؤوا من لبنان والأردن وفلسطين والعراق وسورية ليقولوا لأهل الرقة وريفها نحن معكم، وأنتم في القلب، ونثمن ثباتكم البطولي بوجه شذاذ الآفاق الإرهابيين الذين سيّلوا الآلام والمواجع، ودمروا وهدموا وخرّبوا وجوه الحياة الزاهية التي عرفتها الرقة وأريافها، وخوفوا الناس وقتلوهم وسرقوا بيوتهم ونهبوا أموالهم، وبنوا لهم السجون لأنهم قالوا: بلادي بلادي!
للسبخة البلدة الصغيرة، الغنية بأهلها الكرماء، ولطفهم العميم، وتواضعهم المدهش، جهات أربع، واحدة يمثلها الفرات العظيم الذي يوزع بيديه الكريمتين الخير والطمأنينة عبر ضفتيه، وقنواته الغريدة ليقول للناس ثباتي من ثبات الوطن، ونحن الباقون وهم الذاهبون بسبب غربتهم وشناءات أفعالهم، والجهة الثانية للسبخة هي العجيلي الأديب الذي عاش بين الناس ولأجلهم، الذي كان معنا، وبيننا، والأحاديث تتصادى حول قصصه ورواياته وأشعاره، ومقالاته، وأدب الرحلات التي عرفها فكتبها، وحول حياته التي صارت اليوم، ليس لأبناء الرقة وأريافها وحدهم، المدرسة العظيمة لكل من حلم بالنيافة والمكانة والجاه والحضور الأبدي، والجهة الثالثة للسبخة اليوم هي الانتظار المرفوع على بيرق الأمل الداني لعبور جسر الفرات من ضفته الغربية إلى ضفته الشرقية لعناق بيوت الرقة الواقفة، وأشجارها الملوحة بكفوف العاطفة، والمشي في شوارعها، والجلوس في حدائقها ومنتزهاتها، والجهة الرابعة للسبخة اليوم هي الروح الجمعية المحتشدة بأهازيج الفرح للنصر على أخطر هجمة إرهابية دموية متوحشة عرفتها البلاد السورية العزيزة!
في السبخة، كنا جمعة أشواق من الثقافة والإبداع والفكر والوطنية والحماسة، لم نشعر أننا في قرية، ولم نتفطن لعالم الراحة في الفنادق لأننا عشنا جميعاً في قارب كبير هو قارب المحبة الذي صنعه أهل السبخة من مسؤولين وإداريين وأهل ثقافة وقرويين، لم نكن على انفصال أو بعد في أي لحظة من اللحظات التي عشناها معاً كأدباء وكتّــاب وأهالي بلدة مسَّها الله بأنواره البهية التي جعلت الأرواح رهافات تجول بيننا!
وفي السبخة تحدثنا عن العجيلي الأديب الذي عاش نجومية الأدب والثقافة، ونجومية الطبيب الخادم لأبناء مدينته الرقة وأريافها، فقد كان، وعلى الرغم من بعده عن الأضواء والمنابر، الأكثر حضوراً وسطوعاً ونجومية بين أدباء سورية وأدباء العرب!
وفي السبخة تحدثنا عن عظيمين أحاطهما أهالي الرقة بالمحبة الوارفة هما: الفرات، والعجيلي، لأنهما أزليان في المعنى والحضور حين يدور الحديث الطيب حول الطيبين!
Hasanhamid55@yahoo.com