عن الغُربة
عبد الكريم النّاعم
قال: “يا صديقي ألا ترى أنّك بالغتَ في كتاباتك عن “الغربة” في الجزائر، وما أمضيتَه فيها أقلّ من عشرة أشهر”؟!
قلت: “الإحساس بالغُربة مسألة نفسيّة، وتختلف شدّة توتّرها، وعمق معاناتها، بين شخص وآخر، ولكنْ، دعنا نبدأ من معنى “الغربة”، لقد قال الإمام عليّ ع: “الفقر في الوطن غُربة، والغِنى في الغربة وطن”، وكان عليه السلام من أشدّ الناس في الدفاع عن الفقراء، ولذا رأى في الفقر غربة حتى وأنت في الوطن، وجعل من الغنى وطنا إذا تحقّق في الغربة، وهذا يعني أنْ لا غربة أشدّ من غُربة الفقر، قاتله الله، وقاتل ماصّي جهود الآخرين، والمستغلِّين لهم، وكلامه عليه السلام ليس تنكّرا (للوطن)، بل تنكّر (للفقر)، وإلاّ مَن الذي يتخلّى عن وطن تُصان فيه كرامتُه، وتُعَزّ فيه لُقمته، وقالوا قديما: “الغُربة كُربة”، ليس من باب التقفية اللّغويّة، بل لأنّها كذلك، وثمّة غُربة مركّبة، وهي حين تُواجه غربةَ لغة المكان الذي أنت فيه، وأنا كنت في بلدة “سيدي عيش” التي تُعدّ عاصمة القبائل/ الأمازيغ الصغرى، في الجزائر، وفي تلك الأعوام كان الغالب على لغة أهل تلك البقاع الفرنسيّة، أو الأمازيغيّة، ولا يجيدون من العربيّة إلاّ القليل القليل، وكان علينا أن نستعين بطلاّبنا الذين نعلّمهم في الإعدادية اللغة العربيّة ليكونوا وسطاء بيننا وبين الآخرين للتفاهم، فتصوّر، وأنت في بلد عربيّ، تتجوّل في شوارعه، ولا تسمع رنّة حرف عربيّ!!
ألم يقلْ الكتاب الجزائريون الذين أبدعوا في الفرنسيّة، ولم يكونوا يجيدون العربيّة، محمد ديب، وكاتب ياسين، وآخرون،.. ألم يقولوا إنّهم يشعرون أنّهم في منفى، وقالوا ذلك بكثير من الحُرقة، وهم المنحازون للثورة الجزائريّة في كفاحها للتخلّص من الاحتلال الفرنسي، أرجّح أنّ مَن قال إنّ “اللغة وطن”، ربّما اهتدى إلى هذه الجملة من ملاحظة مثل هذا.
قاطعني قائلا:” ولكنّ تلك الغربة أثمرت مجموعتك الشعريّة “مكابدات ابن زُريق الحمصي”، المطبوع في وزارة الثقافة عام 2004 أليس هذا من عطاءاتها”؟!
قلت: “لقد فتحتَ أفقا آخر، لقد كتبتُ تلك القصائد، وهي شاهدة على حجم المعاناة وعمق آثارها النفسيّة، وصدّقني، وقد ذكرت ذلك في مقدّمة ذلك الكتاب، صدّقني أنّني، عن غير قصد، نسيت تلك المجموعة أكثر من أربعة عشر عاماً، حتى لكأن اللاّشعور قد حذفها لشدّة ما لاقيت فيها، ولكي لا أعود إلى أجوائها، فأنا، كآخرين من الشعراء، حين أعود لقصيدة، ترتسم معها الأجواء النفسيّة التي رافقتْها، ولعلّ القارئ المحبّ للشعر يتذوّق حلاوة النصّ، ويكتشف جماليّاته، ويشعر بمتعة الفتنة فيه، بينما مُنتجه تتلبّسه الحالة النفسيّة التي رافقتْه،
اسمع يا صديقي، لقد كانت الطبيعة المحيطة بنا فاتنة ساحرة، مليئة بخُضرة الأشجار، وفي أيّام الشتاء تخال أنّ الغيم ينتشر من عبّ الجبل، ولكنْ.. ماذا تعني الطبيعة حين تفتقد الإنسان الذي تُحاوره، ولا أعني الحوار العاديّ بل أعني أن يكون الجسر المنصوب بينكما يفتح لكما أفقا واحدا، فإذا كنتَ في وسط يتحدّث لغتك، وبينكم شواسع مخيفة من عدم التجانس، فذلك هو نوع آخر من أنواع التّصحّر، أو التّصخّر، ولا أكتمك أنني الآن حين أستمع إلى الحوارات مع الشباب الجزائريّين، على الفضائيات، وأستمع إلى فصاحتهم، وأقرأ نتفا من آدابهم، أشعر بالكثير من الفرح لنجاح التّعريب، الذي قاومه المتفرنسون بكثير من الخبث والعرقلة والدّهاء والتحريض،
لقد كان التعريب همّا حقيقيّا لدى الرئيس الراحل هوّاري بو مدين، وبرغم كلّ المعوِّقات فقد انتصرت العربيّة، واندحر المتعاونون مع فرنسا، وكان ذلك نسفاً لفجوة الغربة عن اللغة، وكان للسوريّين جهد كبير في التعريب، وهو ما ذكره أكثر من مسؤول جزائريّ في حينه.
قال: “ابتدأنا من نقطة “الغربة” فانظر إلى أين جرفتْنا المياه”!!
قلت: “لعلّ اشدّ أنواع الغربة “الاغتراب”، وهو أن تشعر أنّك غريب في المجتمع الذي أنت فيه..
aaalnaem@gmail.com