صالح علماني.. عشت لأترجم
أحمد علي هلال
قيل إن الترجمة خيانة لكن أكمل الخيانات هي خيانة الجسد، فقبيل وفاته صرح المترجم الأشهر صالح علماني أن جسده لم يعد يتحمل وهو تحت سطوة الإعياء وثقل السنين التي أمضاها في ترجمة روائع الأدب العالمي ولا سيما أدب أميركا اللاتينية، ونقل تراثها الإنساني عبر الرواية وغيرها من الأجناس الأدبية، صالح علماني في رحلته مع الترجمة والأدل في حواره لتلك الأجناس الإبداعية، جعل للمثاقفة أفقاً إنسانياً فكيف به إذا نقل لنا غابرييل ماركيز وإيتالو كالفينو وماريو براغاس يوسا وغيرهم الكثير، إذ كانت النصوص تنصهر بذاته المبدعة لتصبح قطعة من روحه هو، مع ما يضايفها من ثقافته الموسوعية والعميقة والأكثر دراية بتراث الشعوب وتقاليدها وثقافتها، فمع كل ترجمة يصبح العمل ليس محض كائن لغوي، بل كائن من لحم ودم تتنفسه الأصابع والأرواح، وتشتق منه غير حياة، ولعل تلك السيرورات الإبداعية التي شُغف بها –صالح علماني- كانت بمثابة الجسر التي تحاورت معه الثقافة العربية مع ثقافة أميركا اللاتينية وأوروبا، وعبر هذه الثقافة بأبعادها الإنسانية العابرة للحدود واللغات، إلى النفوس الظامئة لشمس المعرفة وأقانيمها، كان صالح علماني حارس الظل صاحب الترجمات العديدة وانطلاقتها المثيرة رواية غابرييل ماركيز «ليس لدى الجنرال من يكاتبه»، فهل كانت الترجمة بديلاً عن نزوعه للكتابة، هذا المعنى الذي يأخذنا إلى مبدع من طراز خاص، وجد ضالته في مغامراته المعرفية في اكتشاف الروائع، ومنها على سبيل المثال «كرة القدم بين الشمس والظل لـ إدواردو غاليانو»، إذن هي الترجمة رافعة الثقافة وحاملة حواراتها المعرفية، وهي من أصبحت لدى -علماني- هويته الجديدة وليست البديلة، إذ إن على المترجم أن يدفع قارئه لغير مستوى في النص المُترجم، واللافت للنظر قدرة المترجم على ما يحفظ التراث الإنساني من زمن إلى زمن ومن ثقافة إلى ثقافة ومن حضارة إلى حضارة، فكم تذكرنا أعمال –ماركيز وإليندي وسراماغو- «رسائل إلى روائي شاب، وصورة عتيقة، وكل الأسماء»، بأبعاد ومكونات ثقافة –علماني- التي انفتحت على تيارات الإبداع واتجاهات الثقافة، إذ يخرج من فكرة الترجمة كصنعة، ليصل بها تخوم الإبداع، لكنه الحذر المرتاب في أعمال أخرى لروائيين التبست مواقفهم بين السياسة والأدب من أمثال «خوسيه كاميلو ثيلا»، فبعين الفاحص والمدقق استطاع أن يميز ما يحفظ للقيمة الإبداعية من عمق ضروري وما يفارقها من كتابات لا تعد أن تكون محض كتابات.
صالح علماني الذي عاش ليترجم ورحل وفي المكتبة العربية تراثاً فذاً من عيون الروايات التي شغل بها العالم العربي والذاكرة الثقافية العربية، التي أصبحت مدينة له باكتشافاته لأسماء مازالت عابرة لأزمانها، وحاضرة في الوجدان الجمعي العربي والعالمي، ذلك أن فضيلة الترجمة ليس بنقل الثقافة فحسب، بل بقدرة المقروء على أن يحاور سواه، ويبثه رسائل تتجاوز الجغرافيا الضيقة إلى ما يعني الفكر الإنساني في توقده وتوهجه وإبداعه، وعبر الكلمة ثقَّف صالح علماني الإحساس لدى متلقيه أدب أميركا اللاتينية، لأن الكلمة عنده هي مرايا تلك الأرواح، ولما يمكن أن نسميهم ببناة العالم، وليس بالمصادفة بمكان أن يرد ذكره في أحاديث ماركيز على أنه قدمه للعربية بكل جدارة، وبالمقابل فإن صالح علماني هو مدرسة في الترجمة وفنها وأدائها الراقي… حقاً عاش ليترجم لكن رحيله سيظل عابراً لأنه ترك إرثاً يتطير إلى الخلود، بتلك الروايات التي أحبها وأقنعنا بأسلوبه وطريقته في الترجمة بمحبتها، واستدعائها كعناوين لكل المراحل التي نمر بها… يا لحدس المترجم حينما يظل في إثر الكلمة التي لم تكتب بعد.