عن قصيدة النثر (1/2)
محمد راتب الحلاق
لكل فن ضوابطه وقواعده وأدواته التي لابد للفنان من امتلاكها وإتقانها قبل أن يخرج على الناس بإنتاجه. والشعر فن من الفنون، فلابد للشاعر من امتلاك أدوات الشعر وإتقان ضوابطه قبل أن يضع رأسه إلى جانب رؤوس الشعراء الحقيقيين، أما من يجرؤ على ممارسة طقوس الشعر، متكئاً على موهبة مزعومة، دون أن يكلف نفسه عناء التحصيل وصقل الموهبة بالدربة والخبرة والثقافة… فلابد من أن يسقط، مهما قدم له من دعم.
لست من الذين يدّعون أن ضوابط الشعر وقواعده وأدواته من المعطيات الماهوية الأزلية النهائية الثابتة والمستقلة عما يجري في سياق التاريخ، بحيث تستعصي على التطور والتبدل بما يتساوق مع الإنجازات الإنسانية في المجالات كافة، وبما ينسجم مع التفاعل الحضاري مع الشعوب والأمم واللغات الأخرى؛ بل إنني من الذين يزعمون بأن الأدوات والضوابط ثابتة ثباتاً نسبياً يكفي لاستقرار بعض الانتظامات في الأذهان، التي تشكل المرجعية للنقد والتذوق وإصدار الأحكام. والثبات النسبي يعني أن ضوابط الشعر وقواعده تتطور ببطء شديد، دون طفرات أو قفزات في الهواء، والدليل على ذلك أننا نجد إرهاصات الأشكال الجديدة في رحم الأشكال القديمة، أشبه ما تكون ببذور تنتظر الظروف المناسبة والبيئة الملائمة لتنمو وتتفتح. أما من يقول غير ذلك، ويزعم بأن الأشكال الجديدة إنما هي دفقة عبقرية مفاجئة، جادت بها قريحة فلان أو علان من الشعراء، وأنها ما كانت لتظهر لولا القطيعة المطلقة مع ما استقر في الأذهان… فإنه يهرف بما لا يعرف، أو يروّج لنمط شعري معين، ويعده المثال المفارق، والنموذج الأقصى للشعر، ويزدري الأنماط التي سبقته، أو يظن (في أحسن الحالات) بأن تلك الأنماط قد استنفدت أغراضها، وباتت منتهية الصلاحية فنياً. وهذا، لعمري، ظن خاطئ تماماً، لأن الأشكال الجديدة لا تلغي الأشكال القديمة وإنما تتجاور معها في إطار من التنافس الفني. والشاعر الحقيقي هو الذي يستطيع أن يبلغ بالشكل الذي يكتب فيه أقصى ما يمكن لهذا الشكل أن يبلغه (حسب طاقة الشاعر وأصالة موهبته). والمتلقي يستمتع بالنص الجيد، بغض النظر عن الشكل الذي كتب فيه. وعموماً، فإن القول بالثبات المطلق للضوابط والأدوات والأشكال يعدّ أصولية فنية سرعان ما يتجاوزها التاريخ. والقول بالتبدل المستمر، مع كل شاعر، بل مع كل قصيدة، يعد نوعاً من الفوضوية والعدمية، وتهرباً من كل ما يحقق الإيقاع ويؤسس للانتظام. الأصوليون من الشعراء والنقاد أخرجوا أنفسهم من التاريخ حين استغرقوا فيه، والفوضويون أخرجوا أنفسهم من التاريخ أيضاً حين أسقطوا إمكانية الاستفادة من التراكم التقني والفني والنقدي، وأدخلوا أنفسهم وقراءهم في دوامة التجريب المستمر، حتى غدا التجريب هدفاً بحد ذاته؟! وأي حوار بين الفريقين سرعان ما يتحول إلى (حوار طرشان) أطلق عليه النقاد في مرحلة من المراحل اسم المعارك الأدبية، كل فريق يخوض المعركة الطاحنة فرحاً بما ينتجه وبما يؤمن به.
ولم تكن تلك المعارك، والحق يقال، شراً كلها، فقد فتحت الأعين والأذهان على زوايا لم تكن معروفة من قبل، وأعطت الفرصة، من حيث لا تريد، للرأي الآخر ليقول كلمته. وآخر المعارك، والتي مازالت مشتعلة منذ عقود، هي المعركة حول مشروعية ما يسمى بقصيدة النثر، حيث ما زال شعراؤها يكافحون من أجل الاعتراف بهم. (يتبع)