صالح علماني شيخ مترجمي الأدب اللاتيني
حوّل صاحب اليد الطولى في حياة الكثيرين من قرّاء العربية إلى كُتّاب بترجمته الكثير من النصوص الإبداعية من لغتها الإسبانية مباشرة، وذلك ضمن الفترة الذهبيّة، إذا جاز القول، في النصف الثاني من القرن الماضي، حيث ازدهرت حركة الترجمة من الروسية والإسبانية واليابانية والألمانية، توازياً مع الترجمة المزدهرة سابقاً من الفرنسية والإنكليزية، إذ تلطفت الأقدار بأولئك القرّاء بوجود المترجم صالح علماني الذي أمضى أكثر من ربع قرن في خدمة الأدب اللاتيني ليُعرّف القرّاء العرب على هذا النوع من الأدب، ويعود الفضل إليه في ترجمة عشرات الروايات التي شكّلت ما يسمى بموجة الواقعية السحرية. كان يبدأ نهاره قبل أن يرتشف قهوته الصباحية، بجولة في مواقع الكتب الإسبانية على شبكة الإنترنت، عندما يعجبه كتاب جديد، يوصي به على الفور. وهكذا، تبدأ لاحقاً رحلته من الإسبانية إلى العربية بلغة رشيقة ومصقولة، ليجد القارئ نفسه منغمساً في لذة القراءة، كأن الكتاب مكتوب بلغة الضاد.
طعم الترجمة
ولد صالح علماني في مدينة حمص السورية عام 1949 ويحمل إجازة في الأدب الإسباني، عمل مترجماً في سفارة كوبا بدمشق، وكان عضو جمعية الترجمة في اتحاد الكتاب العرب في سورية، بدأت قصة دخوله إلى عالم الترجمة عام 1970 عندما غادر إلى برشلونة لدراسة الطب ثم تركه لدراسة الصحافة، وصمد سنة واحدة فقط، وبعدها عمل في الميناء واختلط بعالم القاع كأي متشرد، وبينما كان يتسكع في أحد مقاهي برشلونة ذات مساء قابل صديقاً، وفي الجلسة كان يتحدّث مع مثقفين إسبان عن مكانة الكاتب غسان كنفاني وأهميته، وقتها حدّثه أحد هؤلاء الأصدقاء عن رواية “مائة عام من العزلة” لماركيز، وحين أهداه إياها قرأها ثلاث مرات متتالية، ومن هذه الرواية بدأت قصة حبه لمدرسة “الواقعية السحرية” التي تقوم على خلط الأحلام بالسرد الواقعي، ولم يكن علماني يعرف أن الرواية التي حصل عليها بالصدفة ستغيّر حياته، وستجعله يقرأ كل ما يقع تحت يده من أدب أميركا اللاتينية، ومن ثم ستتعمّق علاقته مع ثقافة ولغة هذه القارة أكثر وأكثر بعد زيارته اللاحقة إلى كوبا.
لكن أول عمل مترجم نشره علماني لغارسيا ماركيز هو رواية “ليس لدى الكولونيل مَن يكاتبه”، في عام 1979، ولاقت ترحيباً ورواجاً كبيراً، ولم تكن رواية “مائة من العزلة”، رغم أنها كانت الطعم الذي سحبه إلى الترجمة؛ بل سبقه إلى ترجمتها سامي الجندي ولكن عن الفرنسيّة، وتحت ضغط من الأصدقاء ترجمها علماني وصدرت عن دار المدى، في عام 2005.
عاش ليترجم
يعتبر صالح علماني شيخ المترجمين العرب وواحد من أشهرهم وأشدهم غزارة وإبداعاً، وقد ارتقى بفن الترجمة إلى مصاف الإبداع الحقيقي، فلم يكن يترجم ليترجم فقط بل ليؤدي دور الكاتب المبدع الذي لم يتسن له أن يكونه بعدما فشل في كتابة الرواية، فاستبدله بالمترجم الشغوف والدؤوب، وقد أتقن ليس فقط اللغة الإسبانية المستخدمة في إسبانيا، بل كذلك لهجاتها في دول أميركا اللاتينية، وهذه اللهجات تختلف عن اللغة الفصحى، وتختلف فيما بينها، لدرجة أنها تبدو لغات متفرعة عن اللغة الإسبانية. ترجم غالبية الأعمال الأدبية للكاتب الكولومبي الحائز على نوبل “غابرييل غارسيا ماركيز” إلى العربية، ومن أهمها “الحب في زمن الكوليرا”، و”قصة موت معلن”، و”ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”، و”مئة عام من العزلة”، و”عشت لأروي”، و”ذاكرة غانياتي الحزينات”، و”ساعة الشؤم”، و”الجنرال في متاهة”، وترجم لكتّاب آخرين، بينهم ماريو بارغاس يوسا الذي ترجم له “رسائل إلى روائي شاب”، و”حفلة التيس”، و”دفاتر دون ريغوبرتو”، و”في امتداح الخالة”، و”من قتل بالومينو موليرو”، و”شيطنات الطفلة الخبيثة”، وترجم للروائية الشهيرة إيزابيل الليندي “حبيبة روحي”، و”ابنة الحظ” التي تدور أحداثها في تشيلي والصين وكاليفورنيا، و”صورة عتيقة”، و”حصيلة الأيام”، و”باولا”. وترجم لخوسيه ساراماغو ورؤى لوكريثيا، ونقل للعربية أعمالا كثيرة كان آخرها رواية “الميّتات” للكاتب المكسيكي خورخي إيبارغوينغويتيا، الصادرة في آب الماضي، كما ترجم روايتين للأطفال هما “الدب القطبي” و”القطار الأصفر”. وحوّل علماني قصة “الجريمة” لسرد عربي غنائي شيق وكوميديا سوداء ساخرة تكشف عن مدى اليأس من النظام القضائي وعوالم الجريمة المظلمة.
جوائزه
حصل صالح علماني على الكثير من الجوائز الخاصة بالترجمة، مثل جائزة اللائحة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب في الإمارات عام 2012، ووسام الثقافة والعلوم والفنون “للكتابة الإبداعية” من الرئيس الفلسطيني محمود عباس (2014)، وجائزة اتحاد الكتاب العرب في طنجة، المغرب وأبو ظبي (2015)، وجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة في السعودية عام 2015، بالإضافة إلى العديد من الجوائز الإسبانية، التي كان أهمها جائزة “جيرار دي كريمونا” للترجمة في عام 2015.
إعلان الموت
توفي مترجم قصة “موت معلن” الذي رحل منذ عدة أيام عن سبعين عاماً مترجماً أكثر من تسعة وتسعين كتاباً، وبذلك فقدت مكتبتنا العربية اليوم مرسالها إلى عالم الأدب اللاتيني صالح علماني، ونحن القرّاء العرب ندين لهذا الرجل بالعرفان إلا أن اسمه سيبقى خالداً طالما القارئ العربي يذكر أسماء روايات: “الحب في زمن الكوليرا” و”انقطاعات الموت” و”كالماء للشوكولاتة” و”ساعي بريد نيرودا”، وكتب “المرايا” و”كرة القدم بين الشمس والظل”.
جمان بركات