عرّاب اللغة اللاتينية
سلوى عباس
كسحابة تعبر السماء على عجل فلا تمطر غيثها كاملاً.. تترك ناسها على جذع يابس ينتظرون عودة المطر، ويحلمون بغمامة الندى تعود إلى وديانها الخضراء ورباها الظليلة.. هكذا يبدو الرحيل الذي غيّب الكثير من الأدباء والفنانين الذين غادروا دنيانا في أوقات متقاربة وكأنهم على موعد واحد، رحلوا وبرحيلهم نفتقد لزمن شكلوه بتجاربهم وعطاءاتهم التي حُفرت في وجداننا، وشكلت ذائقتنا الثقافية وذخيرتنا المعرفية، واليوم يغادرنا الأديب والمترجم صالح علماني الذي غيّبه الموت منذ أيام عن عمر ناهز الـ 70 عاماً، والذي شكّل علامة بارزة في المشهد الأدبي العربي والعالمي، فقد كان شخصاً منتمياً لإنسانيته قبل انتمائه لأية قيمة أخرى، وكان مؤمناً أن الحوار والاختلاف مع الآخر هو الجوهر في فكره، وهو الطريق إلى التوافق، فكان يصوغ للآخر رأياً يفتح الباب لسجال ثقافي مديد الأبعاد متمسكاً بمبادئ هي الأولى في الحياة وبعدها يأتي أي شيء.. تلك المبادئ كان ينسجها كل يوم بصيغة جديدة تبعد عنها مواتها ونمطيتها لتشع بروح جديدة في فضاء الشعر والمعرفة، حيث قدّم إبداعاً متفرداً، عبر مشروعه في الترجمة الذي صاغه برؤية متكاملة ومنسجمة، وهذا دليل على صدق تجربته التي أعطاها نداوة روحه وعمره، وهاهو ينضم إلى قافلة المبدعين الراحلين، لكن آثاره لم ولن ترحل، بل إنها ستزداد مع الأيام جلاء ووضوحاً، وسينظر إليها على أنها شهادة حقيقية على المرحلة التي عاشها، وقد ارتقى بفن الترجمة إلى مصاف الإبداع الحقيقي، فلم يكن يترجم ليترجم فقط بل ليؤدي دور الكاتب المبدع الذي لم يتسن له أن يكونه بعدما فشل في كتابة الرواية، واستبدله بالمترجم الشغوف والدؤوب، وليس من أحد من جيلنا، والأجيال المتتالية إلا وشغف بقراءة رواية “مئة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز وترجمة صالح علماني الذي حاز على ثقة القارئ العربي وأصبح علامة فارقة في الترجمة، وعن بدايته مع الترجمة يقول: “عندما بدأت بقراءة “مئة عام من العزلة” أصبت بصدمة، لغة عجائبية شدتني بعنف إلى صفحاتها، فقررت أن أترجمها إلى العربية. وبالفعل ترجمت فصلين ثم أهملتها، وعندما عدت إلى دمشق نسيت الرواية في غمرة انشغالاتي، لكن ماركيز ظل يشدني، فترجمت قصصاً قصيرة له، ونشرتها في الصحف المحلية. ثم ترجمت “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” 1979، ولفت الكتاب انتباه الناقد حسام الخطيب، فكتب أن شاباً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقراء العربية. هذه الملاحظة قادتني إلى احتراف مهنة الترجمة. قلت لنفسي: أن تكون مترجماً مُهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً. هكذا مزقت مخطوط روايتي الأولى من دون ندم، وانخرطت في ترجمة روايات الآخرين”… كان لترجماته من الأدب الاسباني والأميركي اللاتيني فضل كبير في تعريف الكتاب والقراء العرب إلى تيار “الواقعية السحرية” الذي وسم الحركة الروائية في أميركا اللاتينية، كما كان لترجماته أثر في تطور الرواية العربية وفتح آفاقها على أبعاد سردية وتقنيات وجماليات غير مألوفة.
ولا يعتقد علماني بوجود ترجمة أفضل من النص الأصلي في أية لغة، وخاصة بالنسبة للشعر، فلم يكن يختار نصاً للترجمة إن لم يحبه، وهو موجود في كل ترجماته لأن المترجم شريك للكاتب في العمل، وتتمثل تقنيته الترجمة لديه في القراءة الاستطلاعية أو الأولية للعمل ومن ثم يقرؤه بترو ويترجمه فصلاً فصلاً ويعاود قراءته مرة أخيرة بعد أن تكتمل ترجمته.
اليوم يودّع مترجم “بيدرو بارامو” لخوان رولفو ملايين القراء الذين اكتشفوا على يديه العديد من التجارب البارزة في أدب أميركا اللاتينية مثل: ماريو برغاس يوسا، وإيزابيل الليندي وإدواردو غاليانو وميغيل أنخل أستورياس وغيرهم، وارتبط اسم صالح علماني بأدب أميركا اللاتينية، وأدب ماركيز على نحو خاص.
الرحمة لروح الأديب والمترجم صالح علماني والعزاء لأهله ومحبيه على امتداد الوطن العربي والعالم.