أستميحك عطرا” .. تكثيف وتناغم السينوغرافيا
الكتابة عن الشعر توريط للناقد أو القارئ، فالشعر يندرج في اللانسق والكتابة نسق, ونجوى هدبة في مجموعتها “استميحك عطرا” الصادرة عن وزارة الثقافة– دمشق في 127 صفحة- فعلتها بكثير من المرونة حيث تتناوب سياقاتها على مجموعة من الخطوط التي تتعمد حرية الحركة بالغياب والحضور, والعودة خطفا (مابالي لا تقف الإنصات لثرثراتهم/ولا لصهيل نكاتهم؟/وقع حوافر أمانيهم مثخنة الغبار/وأنا مثخنة بالصمت/ص58- في المستوى الأول تنعكس روحانية الشاعرة وفق معطيات ومعارج وأسئلة تطرحها بدون انتظار إجابات مقنعة, بدءا من حركة اللغة عبر الجملة الشعرية, إلى تجسيد حالات التعبير من حركة المشاعر وإطلاقها من الآني إلى الكلي نحو التجريدي /هي ليست كاملة/تلك القصائد الغافية على سطح بيتي/أشمسها/أدفع عنها غبار الحنين/ وأسطر لها قافيات الفرح/أنا البائسة أدناه/ ص \42 \ بحيث أن كل ارتقاء يصلنا بذروة تالية نحو أسرارها التي لا يمكن للعقل أن يخضع لتكوينها الصارم, مشغولة بمكنوناتها تعزف سلمها الشعوري على أوتار الروح الموجوعة والشائكة /ثوبي ممزق وكلما حل الربيع/نبتت زهرة من شق فيه/وعلقت فراشة تتحسس عطر الله/ص \22\
لا تكلِّف نجوى هدبة نفسها عناء الانضباط للغة بمفاهيمها المختلفة, لكن تحاول أن ترينا النص من منظور مختَلف، يفارق فيه الرّائي ركن المتذِّوق الغارق بوصفاتِ الكتابة ومحتَرَفاتِ الإبداع/أقص لك ترهات عن سذاجتي/في ارتداء حذاء كعبه بعلو فكرتي/ص\95\ /كالعادة يسألني كيفك.؟!/أجيب/أنا بخيرك/لا زلت أهذي بلقائنا الأخير/ص\98\ وفي هذا الإطار تحدثت عن قيم الهوية من خلال استحضار التعدد وصورة المرأة والاستلاب الاجتماعي وهموم النساء وانتهاكات أجسادهن /لي أولاد نجباء/أنجبتهم من رجل عقيم/يتلذذ كل ليل جسدي/ثم يعتلي خيره/ص\54\- ينبغي الإشارة إلى سيميولوجية الغلاف من خلال تحديد معالمه وعناصره اللغوية والاشارية، وانسجام العنوان والصورة على الغلاف الذي لم يكن متوافقا مع مضمون المجموعة العميق والكثيف, نجوى سيدة الاحتمالات الجميلة والمتناقضات الممسوكة جيدا والتوازنات العميقة تقول: /لست حبيبة من النوع الفاخر/لأكدس أحلامك المزعجة/ في قبو البيت/أو أن أهش على نزواتك/فأفيض غيرة/ص\38\ هنا اعتمدت الشاعرة على تحوير مبالغ به لكنه يعطي إحساسا بنقلة متوقعة ومرتقبة, موحية بخلاصة تأملاتها /أنا قميص يوسف/أنا ياقته الممزقة عن ألف حب ولحن/أنا صدره الفتي/وغابات عمره عند حدود القصيدة/ ص\16\ القصيدة ذلك الجسد الأثيري الساحر للحزن وكسر الرموز لأنها هي الكائن المولد للجمال مركز الكون ومعبده والينبوع, في المجموعة موضوع الدراسة لم تتعامل نجوى هدبة مع حقائق الكتلة المتمايزة بل دخلت تلقائيا للإشعاع المحيطي للعبارة الشعرية المعلنة وفي خدمتها أيضا تقول نجوى/كم زاوجت../صرير الباب والمغسلة/وطاولة الزينة/والحاسوب/(,)/لهفتي/ ورسمت غطاء يدثر عريها/ص\11\ تمنح اسما لكل وجع وخيبة وحياة حيث تثير جملة /كم تماديت في احتضان الريح تلوح لي/حتى أفهمتني/أن البعد..حلال/ص 11\ إلى اجتياز مستوى الكثرة, حيث لا تخضع لقانون محدد بحيث يعني تكيبل لا نهاياتها في الاتجاه الذي يخرج الماضي إلى الحاضر/كثير أنت/كهذا التعب/كهذي الاشتعالات/ورق شجرة حبلى ص\75\ حيث تبسط أمامنا خاصية التفاعل والتجاوب مع كلياتها الشعرية وبساطة الإيحاء /كثير أنت كنجوم السماء/ومابعد السماء/ص\75 تشيرانه هنا وليس سواه واقع فعلا, وأن أوجزت في الرؤية لكنها أتاحت إمكانية الانكشاف عبر التمعن في التماهي العميق مع التناغم كيانا وروحا, بحيث أننا في النثرية الجديدة لا نبحث عن المتن بقدر انشغالنا بالهامش/يفتح للرعشة أبوابا/ونوافذ/فأتدفق بين يديه كوجد/كوتر عود/كناي../رتل بحة القصب/و..ذاب/ص\15\التشهي للإفصاح لا يلغي الجمالية بل يضيف لها الدهشة /أنا المذهولة من قرمشة الفستق/وهو../يتلذذ ملحها/ليجففني بلهاثه/ص\66\ للتأكيد بأنه ليس ثمة غيرنا نمعن بالحزن وبالمصير /أنا ظلك الغبي/تعثراتك في رصيف الشارع/ ص 78.
أخيرا على اعتبار أن النص رؤية حرة ورمزية جدا تحيل للتكامل بين العطر واستباحته عبر الاعتذار والإيحاء بوحدتهما /خلقت من ضلعه الأعوج/ فاستقمت على/هواه/ص\119\ العنفوان الذي أعطي له بنقلة واحدة ترصد الصفاء الأول كما تريده نجوى/من كثرة إيمانه بك/سار على مائك/قلبي/ص\122\في فضاء التراكم تؤسس للواقعي دون أن تخدش المتخيل وهو تيمة جادة في كتابات نجوى هدبة لتكاد تؤكد بأن المجموعة هي الأولى في تراتبية النشر لكن في الكتابة فهي تمتلك أدواتها الشعرية جدا.., وهي تدفع مزيدا من الأسئلة غير المسبوقة من أجل الشعر أولا وفي صالح ما يستحق الدهشة لأن الشعلة داخلها متجددة وذات أسلوب باذخ يقوم على البوح بالجمالي وفي الوقت ذاته تقدم لنا نبضا طازجا مترعا بمحمولاته. وسط الكثير من الإضاءات الإبداعية /أحتاج أحرفا أقل/وسماء أكبر لأهمس لك/أعطشك/ ص\123\نجوى هدبة قدمت لنا في استميحك عطرا مجموعة مفردات من المخيلة وضحاياها الجميلة استطاعت نجوى أن ترسي نمطا يهتك التهميش وصولا إلى التساؤلات المقلقة والملغومة تكريما للكتابة وبعيدا عن الثرثرة, وهي تنطوي على منعرجات أرحب وأفاق تعد بالأهم والأكثر عمقا.
سمر محفوض